صوفيا ـ جورج حداد
هناك مقولة اثبتتها التجربة التاريخية وهي: ان التاريخ اذا أعاد نفسه، فإنه يكون في المرة الأولى مأساة، وفي المرة الثانية مهزلة. وهذا بالضبط هو حال المقارنة بين التجربة مع هتلر والنازية، والتجربة مع "السلطان" رجب طيب اردوغان والعثمانية الجديدة؟
وفي جولة على كل الاحداث والحروب التي تجري الان على الساحة العربية، وفي العالم قاطبة، والمرتبطة بداعش والإرهاب، نجد ان بأكملها تصب في خدمة تنفيذ مشروع السلطنة العثمانية الجديدة. ونذكر من هذه الاحداث:
أعراض طاعون "الربيع العربي"
ـ*الحرب الوحشية ضد الشعب اليمني المظلوم، بحجة الاستعداد لمواجهة "التدخل الإيراني".
ـ*تمزيق ليبيا وتدميرها الممنهج بالحروب القبلية وتقسيمها الى عدة امارات داعشية تستولي على النفط وتجوع الشعب الليبي.
ـ*التعاون مع إسرائيل لنقل آلاف الدواعش من جنوب سوريا وفلسطين المحتلة الى سيناء.
ـ*فتح الحدود الأردنية ـ السورية نسبيا، وتهريب آلاف المسلحين الى جنوب دمشق بهدف محاصرة المدينة وقصف احيائها الآمنة والتهديد باحتلالها.
ـ*استباحة الحدود اللبنانية ـ السورية، من عكار الى جرود عرسال، وتحويلها الى قواعد للمنظمات الإرهابية.
ـ*تحويل تركيا الى معسكر كبير للجيش الداعشي الدولي.
أوهام اردوغان
من هنا، فان هذه الاحداث، التي جرت على مرأى المجتمع الدولي بأسره، تصب في اتجاه رئيسي هو: إعادة بعث سلطنة عثمانية جديدة، بزعامة تركيا، تسحق أولا العرب وتدمر بلدانهم وتشرد شعوبهم وتنهب خيراتهم، ثم الشروع في تحقيق الهدف الأساسي وهو التصدي لروسيا.
وخلال حملته الانتخابية للرئاسة، تمحورت الدعاية الانتخابية للسيد رجب طيب اردوغان حول شعار "يجب ان نستعيد أراضي اجدادنا"، أي أراضي السلطنة العثمانية السابقة. وللأسف انه فاز في الانتخابات على هذا الأساس، تماما كما فاز هتلر في انتخابات سنة 1933 تحت شعارات "المانيا فوق الجميع" و"المدى الحيوي لألمانيا". والانتصار الشعبي لاردوغان يبين ان عقلية "الباشبوزوك التركي" لا تزال تعشش عند القسم الأعظم من الاتراك.
تركيا تحولت الى معسكر داعشي
وعليه، فانه خلافا للشرعية والأعراف والقوانين الدولية، تم تحويل تركيا الى معسكر داعشي كبير، سوري ـ عراقي ـ عربي ودولي. وتم حشد هذا الجيش الداعشي تحت قيادة هيئة الأركان التركية وبمساعدة المستشارين العسكريين الاميركيين والناتويين والاسرائيليين، وباسناد من اسلحة المدرعات والمدفعية والقوات الجوية التركية، ـ تم حشده على امتداد الحدود التركية ـ السورية- العراقية، استعدادا للساعة الصفر.
ولاجل التغطية السياسية للعدوان المبيت ضد سوريا (ولبنان!) والعراق، من خلال الحدود التركية، تم تخصيص بضع عشرات او مئات ملايين الدولارات لاجل انفاقها على كافة الوان واشكال المعارضة السورية العميلة، الذين توزعوا على كافة فنادق الخمس نجوم في تركيا، واخذوا يعقدون المؤتمر تلو الآخر، ويتسابقون امام التلفزيونات المأجورة على قرع طبول الحرب ضد "الدكتاتورية السورية" و"عدوان حزب الله اللبناني وايران على الشعب السوري" والطامة الكبرى "الاحتلال الروسي لسوريا". وفي الوقت ذاته جرى توتير الأوضاع في لبنان الى حد الانفجار، من اجل إلهاء الرأي العام العربي والدولي عما يجري في سوريا.
اول عملية غزو: نهب المصانع في حلب
وعلى إيقاع تلك الحملة الإعلامية والسياسية غير المسبوقة ضد سوريا والمقاومة وايران وروسيا، تقدمت الجحافل الداعشية من تركيا في وضح النهار في شمال سوريا، ولا سيما في حلب ومنطقتها الصناعية، وطعنت الجيش السوري في ظهره، وقتلت وجرحت واسرت واعدمت مئات الجنود والضباط في الجيش الوطني السوري، الذين كانوا يقومون بخدمتهم العسكرية الوطنية، كأي جيش نظامي في العالم، ولم يعتدوا لا على تركيا ولا على غيرها.
واستطاعت القوات الداعشية المرتبطة بتركيا ان تستولي على مناطق واسعة في شمال سوريا، ولا سيما المنطقة الصناعية الحلبية، وهجرت ودمرت وخربت بيوت مئات آلاف المواطنين السوريين الآمنين. واخذت تركيا تستقبل اللاجئين السوريين الذين كانت السلطات التركية قد اعدت لهم المخيمات سلفا، وصارت تركيا تتاجر بمسألة اللاجئين ماليا وسياسيا وستراتيجيا، عن طريق جمع الأموال باسم مساعدة اللاجئين، والحملة ضد النظام السوري وحلفائه، والمطالبة باقامة "منطقة آمنة" او "منطقة عازلة"، لتبرير التدخل العسكري في سوريا، وللشروع في تقسيم سوريا طائفيا.
ونهب النفط السوري والعراقي
وبعد نجاح عملية سرقة المعامل السورية دون ان يحرك المجتمع الدولي ساكنا، هيأ اردوغان عشرات الآلاف من دواعشه، الذين شنوا هجوما واسع النطاق في شمال واواسط سوريا والعراق مرة واحدة، واستولوا على كسب وحلب وادلب ودير الزور وتدمر والرقة ومنشآت النفط في سوريا، واستولوا على الموصل وجبل سنجار والانبار والفلوجة في العراق، واصبحوا يهددون بالاستيلاء على دمشق وبغداد بالذات. واعلنوا قيام "الخلافة!!!". وبدأت عملية لسرقة النفط لا سابق لها في التاريخ.
تهديد العالم لاجباره على الصمت
ومن اجل تهديد المجتمع الدولي باسره ومنع أي معارضة دولية لما يجري نظمت المخابرات التركية (بمساعدة حليفتها الموساد الإسرائيلية) العملية الداعشية الوحشية في باريس، التي ذهب ضحيتها اكثر من 100 مواطن فرنسي بريء.
وأمام تفاقم هذا العدوان الدولي على سوريا، وتغوّل داعش، وازدياد خطر سقوط دمشق ذاتها، طلبت السلطة الشرعية السورية، المعترف بها دوليا والممثلة في الأمم المتحدة، مساندة عسكرية جوية روسية للجيش الوطني السوري لرد هذا الخطر. ومنذ الايام الأولى للتحرك العسكري الفعال لروسيا، كشفت تماما الشبكة التركية لسرقة وتهريب النفط وحطمتها وكشفت تماما ان تركيا هي القاعدة العسكرية واللوجستية الرئيسية للداعشية، فقامت القوات الجوية الروسية بالتنسيق مع الجيش الوطني السوري (ومع قوات الحماية الذاتية الكردية في اقصى الشمال) بتحطيم كل خطوط التواصل والامداد بين تركيا ودواعشها داخل سوريا، الذين اصبحوا مطوقين داخل فكي كماشة اخذت تطبق عليهم وتسحقهم شيئا فشيئا.
وبانفضاح هذا الدور التركي الرئيسي، أرعبت تركيا جميع حلفائها واصدقائها التقليديين والمستجدين (باستثناء ربما إسرائيل)، إذ تأكد الجميع ان تركيا أصبحت "فاتحة على حسابها"، وانها لا تأخذ في الاعتبار لا رأي، ولا مصلحة، ولا امن أي طرف حليف او صديق آخر.
غلطة الشاطر
ومع الاستخدام الأقصى للديماغوجية السياسية وقلب الحقائق والادعاء ان كل ما تقوم به تركيا هو من اجل "محاربة داعش"، فإن الحملة العسكرية الروسية الناجحة والفعالة أجبرت تركيا على الكشف عن وجهها تماما، فارتكبت ما يمكن ان نسميه "غلطة الشاطر"، حينما قامت بنصب كمين مدروس لاحدى الطائرات المهاجمة الروسية اثناء تأدية مهمتها القتالية واسقطتها داخل المجال الجوي السوري قرب الحدود مع تركيا، وقامت العصابات الداعشية باغتيال الضابط الطيار الذي وقع بين ايديها. وادعت تركيا ان الطائرة خرقت المجال الجوي التركي، وانها ـ أي تركيا ـ استخدمت حق "الدفاع المشروع عن النفس" الا أن التحقيقات الميدانية الروسية أثبتت ان تركيا، في هجومها الغادر دفاعا عن داعش، استخدمت احدى الطائرات المتطورة الأميركية، مما يحمّل الجانب الأميركي مسؤولية مباشرة، لانه يوجد اتفاق ضمني بين اميركا وروسيا بعدم استخدام اسلحتهما المتطورة احداهما ضد الأخرى، بواسطة طرف ثالث.
وفور اسقاط تركيا للطائرة الروسية علق الرئيس بوتين بالقول "انها طعنة في الظهر"، واتخذت روسيا موقفا رصينا وحازما يدرك تماما ابعاد اللعبة التركية، كما يمثل دعوة صريحة لاميركا لتعيد النظر في علاقاتها مع حلفائها الإقليميين كتركيا وإسرائيل والسعودية، وللتأكد من ان مشاريع "مراجعة" خريطة سايكس ـ بيكو وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط قد تؤدي، ومن حيث لا تريد اميركا ذلك، الى صدام مصيري يمحو اميركا نفسها من الوجود، من اجل "الاحلام السلطانية" لرجب طيب اردوغان واتباعه.
وأمام هذه الأوضاع المشحونة والمعقدة، وبفعل الحملة العسكرية لروسيا ومسلكها الحازم والمسؤول، وعشية انتخابات الرئاسية الأميركية، وخوفا على وجودها، بدأت اميركا تميل الى ـ على الأقل: التظاهر ـ باتخاذ مواقف اكثر اعتدالا من حلفائها انفسهم. ويظهر ذلك في مناسبات عديدة أهمها:
ـ*تأييد اتفاقية وقف اطلاق النار في سوريا، بالرغم من معارضة تركيا والسعودية.
ـ*اختلاف الموقفين الأميركي والسعودي من النظام السوري.
ـ*امتناع اميركا عن الدعم المكشوف للسعودية في الحرب ضد الشعب اليمني المظلوم، وتأييدها للوساطة الأممية.
ـ*تأييد اميركا للاتفاقية النووية مع ايران، بالرغم من معارضة إسرائيل والسعودية وتركيا.
خلفيات التقارب الأميركي ـ الروسي
يلاحظ المراقبون المحايدون تقاربا اميركيا ـ روسيا، مقابل التباعد بين مواقف اميركا وحلفائها، حيث يرى بعض المراقبين انه من خلف كل ما يجري في مقدمة خشبة المسرح فإن الدولتين روسيا وأميركا تحضران للإعلان عن مفاجأة ذات شقين:
الأول ـ اسقاط سياسة العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، التي ثبت فشلها.
والثاني وهو الأهم: الإعلان عن رغبة البلدين في التعاون في استخراج النفط والغاز في شرقي المتوسط (وهما تملكان كل الإمكانيات المالية والتكنولوجية والعلمية والتغطية الدفاعية لذلك) بمعزل عن كل الأطراف الأخرى، ومن ثم يتم اختيار الشركاء المعنيين تأسيسا على التعاون الروسي ـ الأميركي.
روسيا ستلغي أنبوب الغاز عبر تركيا
ولهذه الغاية من المرجح ان تقوم روسيا بإلغاء أنبوب الغاز القاري الذي كان سيعبر البحر الأسود الى تركيا، فاليونان، لتوزيع الغاز الروسي في أوروبا الوسطى والجنوبية والشرقية. وان يتم استبداله بخط انابيب (ربما يكون مزدوجا: نفط وغاز) يمر من روسيا الى أذربيجان الى بحر قزوين الى ايران الى العراق وسوريا (بعد تطهيرهما الكامل من الداعشية التركية) الى قبرص واليونان فجنوب أوروبا. ولاحقا يتم شبك هذا الانبوب بالمضلع بين ليبيا ومصر وسوريا واليونان، ومنه يتم تزويد افريقيا كلها بالنفط والغاز. وفيما بعد يمكن البحث مع السعودية ودول الخليج فيما اذا كانت تريد الانضمام الى هذا المشروع، ويتم استكمال مد الانبوب المزدوج من بحر قزوين شرقا باتجاه كازاخستان والصين والهند وباكستان والهند الصينية.
الاعلام الأميركي بدأ يوجه الانتقادات الى تركيا
ولا بد من الإشارة هنا الى ان الاعلام الأميركي، الموجه والمأجور كله، قد تخلى عن تبني وجهة النظر التركية عن الاسقاط الغادر للطائرة الروسية وقتل الضابط الطيار بخسة تركية ـ داعشية. بل على العكس بدأ هذا الاعلام يوجه الانتقادات الى تركيا. ويقول احد معلقي جريدة The Washington Post ان سياسة رجب طيب اردوغان وحكومته يمكن ان تتحول الى كابوس استراتيجي لتركيا. كما قال للجريدة ذاتها الأستاذ في جامعة انقرة غوهان باتشيك "ان تركيا تقف على عتبة كارثة متعددة الجوانب. وتستشهد الجريدة بما كتبته صحيفة "خبرتورك" التركية بأن البلاد تقف على عتبة العزلة الدولية بسبب تصرفات قيادتها.
ويلخص هنري باركلي، الخبير في الشؤون التركية واحد خبراء البرنامج المسمى "وودروو ولسون" الوضع التركي كما يلي "سنة 2010 كان اردوغان يعتقد تماما ان تركيا هي محبوبة للعالم اجمع، اما الان فقد ضرب على رأسه".