طيلة عقود وعصور خبرنا كلَّ أشكال الاحتلالات المتعددة الجنسيات، وحتى تلك التي لا جنسية لها، الى آخر السلسلة التي لم تنقطع بعد. إحتلالات معظمها كان منظوراً معلناً، عسكرياً- استعمارياً، مادياً، ثقافياً، وغيرها.
آخر هذه الاحتلالات المنظورة توزعت بين إحتلال الاعداء واحتلال الاشقاء ، وما رافقهما وتبعهما من فظائع و مظالم ومعاناة لم توفر لبنانياً واحداً. حقيقةٌ مدمِّرة، مهما حاول البعض تجميلها.
إحتلالات على قسوتها وبربريتها يجدها البعض صفحاتٍ من الماضي عَبَرتْ، و نحن نراها ماثلة للعيان بكل قبحها وبشاعتها . فالاحتلال لا يقاس بالحجم والهوية والزمن، بل بما خلفه من ترددات وتداعيات شوَّهت الثقافة، وتجذّرت في وجدان الجماعة.
في لبنان اليوم، احتلالٌ مقنعٌ، غير مسبوق بشراسته وجشعه وحقده. إحتلالٌ مقنعٌ، أبطاله لبنانيو – الهوية، مغتصبو الشرعية، محتكرو السلطة، مصادرو حقوق الشعب، مهمشو شركاء الوطن الاساسيين، هؤلاء يحكمون باسم الطائف والطوائف، يتسلطون ويتجبرون، بعد أن توزعوا الدولة حصصاً ومحميات، وجوائز طردية للازلام والاتباع.
إحتلالٌ مقنعٌ ! أو كيف تفسِّرون الكيل بمكيالين وأكثر، أو كيف تتوارثون مقدرات الدولة، وتحْرِمون الآخر حقوقه ظلماً وانتقاماً ؟ أو كيف تفسِّرون دفع شعبكم الى المجهول ، الى حيث أنتم غارقون في عقم الطائفية، وفي عتمة الزعامة، وجشع إلاقطاع ؟
كيف تبرِّرون، تهميشَ المسيحيين ومصادرة حقوقهم الدستورية والقانونية، و استبعادهم عن مراكز القرار ، و الوظائف العامة؟
أنتم تعلمون قبل غيركم، أن تجربتكم في الحكم، منذ أن جاء بكم ذاك الطائف الهجين الممسوخ، جرِّتِ الويلات والكوارث، كونها تجربة فساد بامتياز.
إحتلالكم أشد قسوة وظلماً من إحتلالهم، لانكم الاهل والشركاء، وهم الاعداء، ألم تسمعوا ما قاله طرفة بن العبد ؟ :
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضة على المرء من وقعِ الحُسَامِ المهنَّدِ
بين إحتلالكم واحتلالهم، روح النضال والمقاومة حاضرة متيقظة، فالوطن أغلى منكم ومنَّا.
وبين إلاحتلالين، يبقى إحتلالكم ألاشرس والاخطر والاكثر قهراً. إحتلالهم ظاهر ينتهي بانتهاء الاجل، أما إحتلالكم فمقنَّعٌ مضمرٌ خبيث، يبقى في الذاكرة والوجدان، ويبقى جرحه الاعمق والاكثر ايلاماً.
حلَّلتُم وحرَّمْتم، كما تشتهي مصالحكم وأطماعكم. حللتم وحرَّمْتُم صوناً لزعاماتكم والكراسي؛ ثم رحتم تنفثون السموم في وجه شرفاء الوطن وتتهمونهم بالفساد، والانحراف والابلسة !
كفاكم كفراً وتكفيراً، كفاكم عشرات المليارات المسروقة والمهدورة. كفاكم إنتهاكاً لكرامة الشعب وحريته. أفرغتم الدولة من مؤسساتها، جففتم إلاقتصاد والموارد، ضربتم عصب الوطن ، فأصبحنا "جمهورية غربة "، تدفع أبناءها الى هجرة قسريَّةٍ، تبيحُ الفساد، تشرِّعُ ألابوابَ للغرباء، وتضرب الهوية الوطنية.
كفاكم، قرصنة سياسية، تتسلَّطون وتتجبرون كأنكم في ديكتاتورياتٍ ملكيِّةٍ. تقولون بالديمقراطية وتأتون الموبقات باسمها، فعن أي ديمقراطية تتحدثون؟
الديمقراطيات تقول الشعب مصدر كل السلطات ، وأنتم تغتصبون السلطات، تزورن وكالة الشعب وتجددون لانفسكم، في سابقة لم نشهد لها مثيلاً ، حتى في أكثر البلدان تخلفاً.
الديمقراطيات تعتبرُ الانتخابَ حقا مقدساً من حقوق الشعبِ ، وأنتم تحرِّمون على شعبكم هذا الحق. حكومات العالم المتحضر، وعند كل إستحقاق، أو أزمة، تلجأ الى الشعب إستفتاءً، أو انتخاباً، صوناً للشرعية؛ أما أنتم تخافون شعبكم ، تقمعونه، وتصادرون حقوقه.
أنتم تكابرون وتتسلطون، وقد غاب عنكم أن أعظم ديكتاتوريات العالم إندثرت وأصبحت لعنة التاريخ، وأنتم تستمرون في غيكم، تدوسون الكرامات والحقوق، وكأن الوطن مشاعات تتوارثونها وتورثونها.
إتعظوا قبل فوات الاوان، فشعب لبنان العظيم، لم ولن يكون شعباً قطعانياً، وهو يعرف كيف ينتفض ويثور لكرامته وحقوقه المقدسة !