نهلا ناصر الدين -
قمحٌ مسرطن لا غير مسرطن... وزير صحة يبالغ لا لم يبالغ... وزير الاقتصاد يتستّر لا لم يتستّر... تحاليل المختبرات دقيقة لا ليست دقيقة... صراع سياسي لا غير سياسي... خوف على صحة المواطن لا.. لا المواطن لم يكن يوماً في حساباتهم... بهذه الكلمات جلس المواطن اللبناني الى مائدة العشاء يوم أمس بعد يومٍ مضنٍ من التعب والشقاء، وراح يتناول أرغفة عيشه الواحد تلو الآخر ويمزقها لقطعٍ صغيرة يستحضر مع كل رغيف خبز الاسئلة الجدلية السابقة على مبدأ "بحبني ما بحبني" ولم يعلم بأنه لو اتبع هذه الطريقة مع كل حبة قمحٍ في هذا البلد لما توصّل للجواب الشافي في قضية لا تحتمل كلّ الجدل البيزنطي الدائر حولها.
منذ أن خرج وزير الصحة العامة وائل ابو فاعور واعلن خلال مؤتمره الصحفي الصادم عن وجود كميات كبيرة من القمح الروسي المحتوي على مواد مسرطنة "اوكراتكسين" في مرفأ بيروت، وعاد وزير الاقتصاد آلان حكيم ليؤكد بدوره خلو اهراءات القمح تلك من المواد المسرطنة، واتهم وزير الصحة بالتهويل وإثارة الذعر والهَلع في صفوف المواطنين من اجل حملة دعائية لأبو فاعور لا أكثر، لم تهدأ البيانات والبيانات المضادة بين الوزارتين، التناقض الذي حمله الوزيران معهما الى جلسة الاول من امس في السراي الحكومي، والذي لم تنته صولاته وجولاته حتى كتابة هذه السطور.
أزمة ثقة
أعادت قضية القمح المسرطن والجدل الحاصل حولها بين الوزارات المعنية قضية المختبرات الى الواجهة، اذ ان لبنان يعجّ بالمختبرات الطبية على اختلاف انواعها، منها المرخّص ومنها غير المرخص، منها الموثوق بها ومنها غير الموثوق بها. الامر الذي ينعكس تناقضاً على نتائج التحاليل والفحوصات التي تنتج عنها. ولا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد المختبرات في لبنان، علماً أن المرخص منها لا يتعدى الـ300 مختبر، أما غير المرخصة والتي تتراوح بين مختبرات عادية ومختبرات مستوصفات وبين مختبرات نقل لعينات الدم وما الى هنالك وهي (الممنوعة في القانون) فيتجاوز عددها عدد المختبرات الشرعية، كما يؤكد رئيس الهيئة الوطنية الصحية اسماعيل سكرية لـ"البلد". الذي يلفت الى أن الاخطر من أعداد المختبرات غير الشرعية وغياب الرقابة عن الشرعية منها والاخرى غير الشرعية كون دائرة الرقابة على المختبرات غير مفعّلة منذ زمن، هو أن قضية المحاليل (المواد الكيميائية) التي يتم استعمالها للفحص داخل المختبرات، قد دخلت في لعبة الثقة وعدم الثقة ايضاً، لأن الكثير من المحاليل إما غير أصلية في تركيبتها، وإما قد فقدت مفعولها بحكم عمليات نقلها وانتظارها في المناطق ضمن ظروف غير سليمة، ما ينعكس على نتائج الفحوصات التي تجريها المختبرات عبر تلك المحاليل.
لا مختبر مركزي
تجدر الاشارة الى عدم وجود مختبر مركزي أو وطني في لبنان، في الوقت الذي كان يوجد في لبنان مختبر مركزي قد انشئ سنة الـ1957 وتم اقفاله وهُدّ بناؤه في العام 2007، بعد ان فقد القدرة على القيام بالفحوصات الكاملة في التسعينات لعدم توفر الدعم اللازم. واليوم تعتمد كلّ الوزارات المعنية (الصحة، الزراعة، الطاقة والمياه، الاقتصاد، والبيئة) والتي يتوجب عليها خلق مختبر مركزي، على مختبرات خاصة. ولا يضعون في اعتباراتهم اي استراتيجية لاعتماد مختبر مركزي لمجموع وزاراتهم، لأن ذلك يتنافى مع مصالحهم التجارية. فعلى سبيل المثال لا الحصر "وجود مختبر مركزي للرقابة على الدواء فقط يقوم بتطيير نصف أدوية السوق التي لا حاجة لها". ورأى سكرية ان ما يحصل اليوم من تناقض بين الوزارات المعنية حول وجود كميات مسرطنة في القمح او عدم وجودها، هو استهتار بصحة الناس، مشيراً الى أن انشاء مختبر مركزي هي من قضايا الهيئة الوطنية الصحية الاساسية، وتقدمت الهيئة مؤخراً بـ"مذكرة ربط نزاع" الى الوزارة، و"في حال لم نأخذ ردا مقنعا من الوزارة يبرر عدم وجود مختبر مركزي سنرفع المذكرة لمجلس شورى الدولة".
صراع سياسي
في هذا الاطار رفض رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برّو كل ما يدور من جدل وشكوك واتهامات حول وجود مواد مسرطنة في القمح أم لا. ورأى بأن كل ذلك يشير الى عدم تحمل الوزراء لأي مسؤولية حيال اللبنانيين، اذ تحوّل الصراع بينهم الى صراع سياسي من دون ان يأخذوا بعين الاعتبار مصالح الناس ومخاوفها. ولم يستغرب هذا الواقع في ظل حالة الفساد المستشري في البلاد، بحكم تركيبة الحكومة التي اصبحت فيها كل وزارة عبارة عن دويلة تتصارع في القضايا المشتركة في ما بينها ويخلطوا معاركهم الخاصة بقضايا الناس. فـ"عندما يتحول الصراع الصحي الى صراع سياسي من الطبيعي ان يذهب ضحيته عيش الناس وسلامتهم"، مشيرا الى ان القمح يحوي على مادة بنسبة صغيرة قد تنتج فطريات مسرطنة في حال التخزين السيئ.
وشدد برّو في حديثه لـ"البلد" على ان معالجة هذا الموضوع يجب ان تحصل بشكل علمي عبر اعادة اجراء التحاليل لدى المختبرات المعتمدة لحسم الجدل في هذا الموضوع، داعيا الوزارات المعنية الثلاثة (الصحة، الاقتصاد والزراعة) الى المسارعة في توحيد الآلية واعتماد واحد او اثنين من المختبرات المعتمدة لحسم القضية، وتوحيد الجهود من اجل ضمان سلامة القمح الذي يدخل في الخبز (الجزء الاساسي من غذاء المواطنين) لان الجدل لا يؤمّن سلامة المواطنين. وعبّر عن الحاجة الملحة لانشاء الهيئة الوطنية لسلامة الغذاء، التي من شأنها ان تصبح الحكَم في القضايا من هذا النوع. وأشار الى ان هناك مجموعة من المختبرات في البلد يمكن اعتمادها لإجراء هذه الفحوصات، تتراوح اعدادها بين الـ15 والـ20 مختبرا، وهناك اقلها 3 مختبرات يكمن اعتمادها لإجراء فحوصات الـ"اوكراتكسين".
الى القضاء..
وفي الوقت الذي تستمر فيه الوزارات المعنية بتراشق الاتهامات مع غيابٍ شبه تام لوزارة الزراعة المعنية بدورها، لجأ بعض التجار للتخلص مما لديهم من اكياس طحين منتهية الصلاحية وينخرها السوس، في حوض المرفأ الجديد في صيدا، ما يؤكد ان الفساد قد وصل فعلاً الى خبز المواطن اليومي. واثارت هذه القضية حفيظة المجتمع المدني الذي هبّ بدوره في ظل غياب المحاسبة للدفاع عن سلامة المواطن الذي أجبرته "سلطة العار" على تغميس لقمة عيشه بالشقاء طوال السنوات الماضية، وتحاول اليوم اجباره على تغميس عيشه بالسرطان.
فتقدّم المحامي حسن بزي باسمه وباسم حملة "الشعب يريد اصلاح النظام" بإخبارٍ صباح امس ضد كل من يظهره التحقيق بموضوع صفقة القمح المسرطن امام النيابة العامة التمييزية. طالبا احالته الى المباحث الجنائية المركزية للتحقيق مع كل من يظهره التحقيق فاعلا او شريكا او متدخلا او محرضا بجرائم المواد 109 وما يليها من قانون حماية المستهلك رقم 659 2005 بالاضافة الى امكانية تطبيق احكام قانون العقوبات في ما يتعلق بالمحاولات المقصودة لقتل وايذاء اللبنانيين قصدا او على الاقل الايذاء عن غير قصد الناتج من الاهمال، كما واستماع الوزراء والموظفين المسؤولين عن هذه الصفقة لتحديد المسؤوليات وملاحقة كل متورط او مقصر واحالة الجميع الى المحكمة المختصة لإنزال اقسى العقوبات بحقهم.
ويؤكد الصحافي والناشط في الحملة نفسها جوي حداد أنه في ظل التناقض الحاصل بين الوزارات المعنية كان لا بدّ من ان تلجأ حملة "الشعب يريد اصلاح النظام" لوضع القضية في ايدي القضاء ليحسم الجدل الحاصل حولها، معولاً على ان يقول القضاء كلمته في هذه القضية، كونها ليست المرة الاولى التي تتقدم فيها الحملة بإخبارات ضد قضايا الفساد في لبنان.
وضع مسرطن
وإزاء هذا الوضع المسرطن بخبثِ سلطةٍ فرضت نفسها على انفاسنا تماماً كما فرضت علينا التعايش مع النفايات، ربما سيقضي المواطن اللبناني عمره وهو يتساءل بينه وبين نفسه عن سلامة الهواء الذي يتنشقه والغذاء الذي يأكله... الى ان يصل لقضم اصابعه ندماً على ما اقترفت يداه يوما في صناديق الاقتراع ...!