أصدرَت داعش أخيراً (12 آذار 2016) فيديو رسمياً صادر عن المكتب الإعلامي في «ولاية الرقة»، ضَمّنته ما بات يُعرف ببيان «أحفاد الصحابة في لبنان» أو ببيان «ولاية الرقة اللبناني»، حيث ظهر فيه إثنان من عناصرها اللبنانيين وهما يهدّدان الاستقرار في لبنان.
أظهرَ تحليل الفيديو أنّه غير مركّب، ويتمتّع بجودة تقنية عالية، يشبه من حيث جودته وأسلوب مادته الإعلامية اشرطةَ الفيديو العالمية التي تنشرها «داعش» . وبحسَب مصادر متخصّصة، فإنّ التدقيق في صورة اللبنانيَين اللذين ظهرا في الشريط، أظهر أنّهما فِعلاً لبنانيان، وغادرا لبنان منذ أكثر من عامين والتحقَا بـ«داعش» في سوريا.
لكنّ الأبعد أثراً من ذلك هو التحليل الأمني لهذا الفيديو، الذي يُظهِر الملاحظات الأساسية الآتية:
أوّلاً ـ مادة شريط الفيديو في الشكل والمضمون تؤشر للمرة الأولى الى اهتمام «داعش» بتوجيه رسالة مخصصة للبنان. قبل هذا الفيديو كانت «داعش» تترك أمر التصريح عن أيّ شأن لبناني لشخصيات محسوبة عليها (كالشيخ زريقات)، وتقوم الأخيرة بنشره على صفحة حسابها الخاص والشخصي على الانترنت.
ثانياً ـ يطرح شريط الفيديو سؤالاً جدّياً عمّا إذا كانت «داعش» تريد منه معاودة التذكير بأنّ لها حضوراً مستمرّاً على الساحة اللبنانية، أم أنّها تريد من خلاله الإشارة الى أنّها تعتزم تأسيس مرحلة جديدة من سياق العنف في لبنان المنقاد مباشرةً من قيادتها في الرقّة عاصمة دولة خلافتها؟؟.
الملاحظة الثالثة، تستخلص معطيات الملاحظتين الآنفتين لتصوغ تقدير موقف يقول إنّ «داعش» تبشّر بمرحلة جديدة في لبنان، وذلك استناداً إلى تغيّرات مهمّة طرأت أخيراً، وأهمّها أنّ حضورَها الميداني في المنطقة المتداخلة بين لبنان وسوريا على الحدود الشمالية – والتي تشكّل عملياً ميدان الاشتباك بين الجيش اللبناني (وحزب الله ايضاً) والتكفيرين – شهد تحوّلاً ملحوظاً ونوعياً خلال الأشهر الأخيرة.
فقبل أشهر كانت «جبهة النصرة» هي المسيطرة على أكثر من 80 في المئة من هذه المنطقة، ولكن حاليّاً نجَحت «داعش» في السيطرة على جزء كبير من مناطق وجود «النصرة» التي لم تعُد موجودة إلّا على أقلّ مِن 50 كيلومتراً مربّعاً من هذه المنطقة، فيما «داعش» باتت الآن تسيطر على القسم الأكبر منها.
وهذا يعني عملياً أنّ «داعش» باتَ لها حدود مشتركة (حدود تماس) مع لبنان، ويعني أيضاً حدوث تغيّر خطير، مفادُه أنّه في زمن سيطرة «النصرة» كان يمكن لبنان أن يستفيد من دالّة بعض الدول الإقليمية عليها، ويوسّطها لمنعِها من القيام باجتياحات لمناطق لبنانية، ولكن مع انتقال السيطرة الى «داعش»، فإنّ بيروت فقَدت قدرة توسيط دول إقليمية لإبقاء هذه الجبهة باردةً وممسوكة سياسياً.
وعليه، لا يستبعد تقدير الموقف أن تدخلَ «داعش» في أيّ وقت وفجأةً إلى بلدة عرسال، أو تشنّ هجوماً في اتّجاه بلدة رأس بعلبك، ويَعتبر التقدير أنّ بيان «ولاية الرقّة اللبناني» قد يكون تمهيداً لحدوث «غزوة داعشية» قريباً.
ملف الجنود المحتجَزين
وتأتي هذه التعقيدات على حدود لبنان الجغرافية والأمنية مع تداعيات الأزمة السورية عليه، في وقتٍ لا تزال قضية العسكريين اللبنانيين المحجتزين لدى «داعش» بلا حلّ أو حتى بلا بارقة أمل لإنهائها.
وهنا تميل بعض الأوساط المتابعة لسلوك «داعش» إلى الاعتقاد بأنّ بيان «ولاية الرقة اللبناني» الموجّه للبنان قد يكون له هدف آخر، وهو لفتُ نظر بيروت إلى ضرورة التحرّك لإجراء تواصل غير مباشر معها يفضي إلى إطلاق الجنود اللبنانيين الذين تحتجزهم، وذلك ضمن صفقة تكرّر ما حصل قبل أشهر مع «جبهة النصرة».
«داعش» يستكشف
وبحسب هذه الأوساط أنّه منذ نحو ثلاثة أشهر حتى الآن، تجمّعت لديها معطيات توفّر سياقاً كاملاً لِما يمكن تسميتُه «قصّة محاولات جسّ نبض غير مباشرة قامت بها «داعش» لاستكشاف إمكانية إجراء مفاوضات لمبادلة الجنود اللبنانيين لديها بعناصر تابعين لها موجودين في السجون اللبنانية».
وفي التفاصيل عن عملية «جسّ النبض» هذه، أنّ «داعش» قامت منذ أشهر على الأقل بعمليتي جس نبض غير مباشرتين لاستيضاح الثمن الذي يمكن أن تقدّمه الحكومة اللبنانية لها مقابل إطلاقها الجنود الذين تحتجزهم .
وتكشف الأوساط نفسُها عن أنّ هناك نوعين من الأثمان المنسوبة الى أنّ «داعش» تطلبها، وهي وردت إلى بيروت خلال الاشهر الاربعة الاخيرة عبر قنوات ملتوية وبأسلوب أنّها معلومات وأجواء من داخل تنظيم «الدولة الإسلامية»، وتضمّنَت تحديداً شروط «داعش» الأساسية أو «شروطها المفتاحية» للدخول في أيّ تفاوض لإبرام «صفقة مبادلة».
في المرّة الأولى سرّبت «داعش» أنّ مفتاح تحريك ملف الجنود المخطوفين لديها، يتمثّل بأن تقبل الدولة اللبنانية مسبَقاً بإطلاق أحد عناصرها المحتجزين في لبنان، وهي تعتبر أنّ مِن دون الموافقة على إطلاق هذا العنصر بعينه، فإنّ «داعش» لن تدخل في تفاوض حول أيّ صفقة تبادل.
وعلى الرغم من أنّ المصادر المالكة لهذه المعلومة تكتّمت على اسم العنصر الذي طرحَته «داعش» مفتاحاً لبدء مسار أيّ تفاوض مع الدولة اللبنانية، إلّا أنّها قدّمت مواصفات عنه، أبرزُها أنّه مِن قياديي تنظيم «الدولة الإسلامية» التنفيذيين، وتنبع أهمّيته من كونه ذا حظوةٍ داخل قيادتها المركزية في الرقة، وأيضاً لكونه يملك أتباعاً داخل بيئات الجسم التنظيمي لـ»داعش» في الساحتين السورية واللبنانية.
محاولةً جسّ النبض الثانية التي سرّبتها «داعش» لبيروت حَملها وسيط متبرّع وقدّمها بصفتها معلومةً حصَل عليها من أجواء مطلّة على «داعش». وهي بدت أكثرَ تفصيلية وتتضمّن للمرّة الأولى مبادرة قابلة للبناء عليها، وبموجبها تعلن «داعش» أنّها مستعدة لتقديم ضمانات تُظهر أنّ الجنود اللبنانيين المحتجزين لديها لا يزالون أحياء في حال وافقَت الحكومة اللبنانية على مبدأ إطلاق موقوفين لـ»داعش» لم تصدر أحكام قضائية في حقّهم بعد.
بعد هاتين الإشارتين لـ«داعش» عن رغبتها في تحريك ملف الجنود المحتجزين لديها، ساد صمتٌ، ما عدا متابعات تقوم بها جهات مختصة لإمكانية تحريك الملفّ مِن ثغرةٍ ما، أو مِن خلال إنشاء صلات أخذٍ وردّ انطلاقاً من محاولتَي «داعش» الآنفتين غير المباشرتين.
ناصر شرارة – الجمهورية