حسين مرتضى -
لا زال القرار الروسي بتخفيض عديد قواته في سوريا يثير جدلاً يتردد صداه في جنبات دوائر التحليل السياسي الذي تقلقه غالباً القرارات المفاجئة، حيث لم يبق أحد والا تحدث عن القرار، واستغرق في التحليل وكأنه نهاية المراحل.
لعل القرار أظهر انقساما في الرأي، حيث اعتبر البعض أن تخفيض العديد جاء في مرحلة دقيقة وحرجة على الصعيدين الميداني والسياسي، فصحيح ان روسيا لديها رؤيتها الخاصة حول الحرب على سورية، في الوقت نفسه يجب ان نقّر ان العلاقات الروسية السورية متجذرة، لكن هذا لا يعني التطابق التام، لأن لا توافق مطلق في السياسة كما في العلاقات الثنائية بين الدول في زمن الصراعات .
روسيا
إن الحديث بسلبية عن القرار الروسي يشبه إطلاق النار على القدمين، ويجب الاتفاق اولا على ان روسيا الاتحادية جاءت الى سورية لتنتصر وتحقق انجازاً يحسب في علم السياسة، عبر أساليب عسكرية وسياسية، وهذا الانتصار ربما نختلف على اسلوبه وشكله وطبيعته، لكن ما سنتفق عليه هو ان من نتائجه عودة روسيا على الخارطة السياسية العالمية كلاعب قوي عبر البوابة السورية، فكانت عودتها إلى المنطقة التي خسرت فيها رهانات عدة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وتفرد الغرب الامريكي بالقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة، لذلك توصف هذه الحرب، بأنها بلا شك أصغر من حرب باردة لكنها اكبر من حرب اقليمية، وتبقى اسباب اندلاعها أكبر وأعمق من كل ما قيل عنها، ما يفسر تراتبية التصعيد في السنتين الاخيرتين، والتدخل المتدرج للروس في الحرب على الارهاب، الذي يشكل صلب عمل الدولة السورية التي تحقق الانتصار عليه، عبر الدبلوماسية المتبعة والسياسة الذكية الهادئة، والجيش الذي يحارب بشراسة في اصعب انواع الحروب على الاطلاق.
هذه المعطيات بالمجمل تجعلنا نفهم أن حسابات الاصدقاء قد لا تنسجم مع حسابات الدولة السورية في مفصل معين.
إن اهم ما يتكشف عنه الصراع في المنطقة، ان موسكو عندما جاءت الى سورية لم يكن الامريكي بعيداً عن المنطقة، بل كان قد غرق حتى ركبه في الحرب السورية إثر دعمه للمجموعات المسلحة بالتدريب والتسليح والتمويل، عبر برامج عدة كانت تحاك في الاردن وتركيا، برعاية وتمويل من شركاء الأمريكي في الخليج والكيان الاسرائيلي، ما جعل سياسة الولايات المتحدة الامريكية تتماهى مع رغبة الروسي بإيجاد نصر سياسي بحده الأدنى في المنطقة، التي تفتح لهم أفاقا في الجغرافية السياسية، ما خلق تنسيقا واضحا مع الامريكيين بدأ بالخطوط العريضة، كمحاربة الارهاب وعدم تمدد داعش، واستفاد الساسة الروس من عدم توفر الكثير من الخيارات امام الادارة الامريكية، بالتزامن مع عدم قدرة الاتحاد الاوروبي تحمل أعباء اقتصادية من تدخلها في سورية، بعد الافلاس الواضح في ميزانيات بعض دوله.
إن الاستعراضات الانسانية واستسهال القصف الجوي الذي مارسه ما يسمى بالتحالف الدولي ضد داعش، لم يثمر عن أية نتائج على الارض، وهذا يشكل بحد ذاته ورقة قوة ضغط بها الروسي، بعد ان تعامل بشكل جدي مع بنك الاهداف المقدم من الدولة السورية، واعطى مصداقية في المجتمع الدولي للتدخل العسكري، الذي شكل مع بطولات الجيش السوري وحلفائه تغيرًا واضحًا في خارطة القوة، ليساعد ذلك روسيا في دفن تفرد الولايات المتحدة الامريكية بفكرة محاربة الارهاب.
كل ما تقّدم يشكل جزءًا من المشهد السياسي المعقد في المنطقة، لنصل الى ان هذا القرار الروسي له الكثير من التشعبات التي لا يمكن قراءتها من زاوية واحدة، بل هي جزء من تراكمات سياسية وربما تكون ميدانية عسكرية.
وفي ظل كل هذا التعقيد بالمشهد السياسي والميداني، فإن الجيش السوري يسعى للاستمرار في ملاحقة المجموعات المسلحة، بعد الانجازات الكبيرة التي تحققت، وهذا لا يعني إلغاءً للمسار السياسي، على العكس تماماً، فطالما أن العمليات العسكرية لا تزال تطال داعش والنصرة والمجموعات المسلحة المرتبطة بها وبالوتيرة نفسها، فإن ذلك سيساهم في دفع المفاوضات وإعطائها قوة مضافة للتوصل الى حل، فمن المبكر القول أنه القرار الروسي سيُخرج الحرب المفروضة على سورية عن السياق الروسي المتبع في عهد بوتين، أي الساعي إلى ترميم مجد دولة عظمى عبر الحرص على مصلحة روسيا أولاً، دون الانزلاق لحرب باردة جديدة مع الولايات المتحدة، أو حتى إحراق جسور يلتسن المتهالكة مع الغرب، والتي بنى عليها علاقات موسكو مع واشنطن، وعليه سيظل الحراك السياسي هو أقل من حرب باردة وأكثر من أزمة في منطقة استراتيجية، وما سيحدد اقتراب الحل بعيداً عن مفهوم الغرب الامريكي، والمساق الروسي، هو المساحات التي يطهرها الجيش السوري في حربه ضد الارهاب.