بنت الاسد
وقفت أربعة عبيد يروجّون بمرواحهم لملكة حيزبون كانت نائمة على عرشها تغطّ غطيطاً غليظاً. وكان في حضن الملكة هرّة متكئة تموء وهي تنظر الى العبيد نظرة كره واشمئزاز.
فقال العبد الأول لرفقائه: "ما ابشع هذه الحيزبون نائمة! انظروا كيف تراخت شفتاها، وهي تصعّد أنفاسها كأنما الشيطان آخذ بخناقها".
فماءت الهرّة قائلة: "إن بشاعتها في رقدتها ليست جزءاً من بشاعتكم في عبوديتكم وأنتم مستيقظون".
ثم قال العبد الثاني: "ومن الغريب أن النوم لم يلطف ملامح وجهها، بل زادها تجعداً، فهي ولا شك حالمة حلماً شريراً راعباً".
فماءت الهرة قائلة لهم: "حبذا لو تنامون أنتم وتحلمون بحريتكم!".
فقال العبد الثالث لرفقائه أيضاً: "يلوح لي أنها ترى في منامها موكب جميع ضحاياها الذين قتلتهم ظلماً وعدواناً".
فماءت الهرة قائلة: "نعم، فهي ترى مواكب أجدادكم وحفدتكم".
ثم قال العبد الرابع: "ما أغباكم تتحدثون عن هذه الملكة وهي نائمة، وماذا يجديكم الحديث نفعاً أو يجديني؟ ألعله يخفف عني نصيبي في وقوفي وعنائي في ترويحي لها؟"
فقالت الهرة وهي تموء: "أجل، انكم ستوّحون الى دهر الداهرين".
وفي تلك اللحظة تحركت الملكة في نومها فسقط تاجها على الأرض فقال واحدٌ من العبيد: "إن في ذلك لشؤماً!"
فماءت الهرة وقالت: "مصائب قوم عند قوم فوائد".
فقال العبد الثاني: "ماذا يحلّ بنا إذا أفاقت الآن من نومها ورأت تاجها ساقطاً على الأرض؟ والله إنها تذبحنا جميعنا!"
فماءت الهرة قائلة: "قد كانت تذبحكم منذ ميلادكم ايها الأغبياء وأنتم لا تعلمون".
وقال العبد الثالث: "إنها ولا شك تذبحنا، وتعتبر أنها بعملها هذا إنما تقرب عبادة لآلهتها".
فماءت الهرّة قائلة: "لا يضحّي للآلهة الاّ الضعفاء".
أما العبد فأسكت رفقاءه عن الكلام، والتقط التاج بتأن ووضعه على رأس الملكة من غير أن يوقظها.
فماءت الهرّة وقالت بصوت عال: "الحقّ أقول لكم إنه لا يلتقط التيجان المتدحرجة سوى العبيد." وبعد هنيهة استيقظت الملكة، وتلفتت حواليها متثائبة ثم قالت لعبيدها: يخيّلُ إليّ أني حلمت بأني رأيت أربع حشرات يطاردها عقرب حول جذع سنديانة جبارة. قبّحه الله من حلم مزعج!"
وأطبقت عينيها فنامت ثانية بعد ان ملأت القاعة بغطيطها، فطفق العبيد الأربعة يروّحون لها على جاري عادتهم.
أما الهرّة فماءت قائلة: "روّحوا أيها العميان والأغبياء، فانتم لا تروّحون الاّ ناراً تلتهم وجودكم!".
القديس
زرت في حداثتي قديساً في صومعته الهادئة، القائمة بين التلال، وفيما كنا نبحث ماهية الفضيلة أطلّ علينا لصّ وهو يتعرّج على الجانبين فوق الروابي، والتعب قد اعياه. وعندما وصل الى الصومعة جثا على ركبتيه أمام القديس وقال له: "ايها القديس الشفيق قد جئتك طالباً تعزية، فإن آثامي قد تعالت فوق رأسي".
فأجابه القديس قائلاً: "يا ابني، إن آثامي أنا أيضاً قد تعالت فوق رأسي".
فقال له اللص: "عفوك يا سيدّي! فأنا سارق، وقاطع طريق، ويستحيل أن تكون مثلي".
فأجابه القديس: "إنك واهمٌ يا ابني، فانني بالحقيقة مثلك سارق وقاطع طريق".
فقال له اللص: "ماذا تقول يا سيدي؟ فأنا قاتل ودماء الكثيرين من الناس تصرخ في أذني".
فأجابه القديس: "وأنا ايضاً قاتل يا إبني وفي أذني تصرخ دماء الكثيرين".
فقال له اللص: " يا سيدي أنا قد ارتكبت شروراً لا تُحصى، وجرائم لا عداد لها، فكيف تساوي نفسك بي وانت رجل الله البار؟"
فأجابه القديس وقال: "لو أنك عرفت كثرة شروري لما ذكرت شرورك".
فانتصب اللص إذ ذاك وحدّق الى القديس طويلاً، وملء عينيه دهشة وغرابة، ومضى من غير أن ينبس ببنت شفة.
أما أنا فكنت صامتاً الى تلك الدقيقة. فالتفتّ آنئذٍ الى القديس، وسألته قائلاً: "ما دعاك الى أن تنسب لنفسك شروراً لم ترتكبها قطّ يا سيدي؟ الا ترى أن هذا الرجل قد مضى ولم يعد من المصدقين بدعوتك، والمؤمنين ببشارتك؟"
فاجاب القديس وقال: "أجل يا بنيّ، فإنك بالصواب حكمت، بأنه لم يعد من المصدقين بدعوتي، ولكن الحقّ أقول لك إنّه قد انصرف والعزاء يملأ فؤاده".
وفي تلك اللحظة سمعنا اللص يغني من بعيد، وكانت الأودية تردّد صدى صوته الممتلئ بالمسرة والتعزية.
الطمع
رأيت في جولاتي في الأرض وحشاً على جزيرة جرداء جرداء له رأس بشري، وحوافر من حديد.
وكان يأكل من الأرض ويشرب من البحر بلا انقطاع. فوقفت أراقبه ردحاً، ثم دنوت منه وسألته قائلاً: "الم تبلغ كفافك بعدُ؟ أليس لجوعك من شبع أو لظمإك من إرتواء؟"
فأجابني وقال: "نعم، نعم قد بلغت كفافي بل قد مَللت الأكل والشرب ولكنني اخاف أن لا تبقى الى غد أرض لآكل منها وبحر لأرتوي من مائه".
السابق – جبران خليل جبران