صفوان أبو حلا-
استمرارا لنبرة التصعيد عوضا عن الاعتذار لموسكو بعد إسقاط القاذفة الروسية غدرا، تواصل أنقرة سياسة الاحتماء بالناتو والتهديد بعصا بروكسل رغم تنصل الغرب إجمالا من فعلتها.
اعتبر وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في تصريح أدلى به مؤخرا، أن بوسع بلاده والناتو احتلال روسيا في أقل من أسبوع، متجاهلا أبسط البديهيات المتعلقة بقدرات روسيا العسكرية.
وزير الخارجية التركي عندما أعرب عن ثقته بما قال، يتجاهل على ما يبدو نهاية جميع الزعماء المتهورين الذين لم يأخذوا بنصيحة أوتو فون بسمارك مؤسس ألمانيا وجامع أراضيها، وأقحموا بلدانهم وجيوشهم في حروب مع روسيا انتهت بزوالهم ودحر امبراطورياتهم، بل اضمحلالها كما حدث مع الإمبراطورية العثمانية التي تسعى الحكومة التركية المعاصرة إلى بعثها من جديد.
الملفت في تصريح وزير الخارجية التركي والذي بثته إحدى القنوات التركية حسب موقع YourNewsWire، ثقته مما تحدث عنه وإيمانه بقدرة بلاده والناتو مجتمعين على غزو روسيا واحتلالها، ليس خلال أشهر كما سبق لهتلر أن وعد جيشه، بل في فترة أقصر من ذلك بكثير تمتد لبضعة أيام.
من هذا التصريح، يتبين أن أنقرة في تهديدها هذا، كمن يختبئ وراء شرطي ليحتمي من بلطجي لا يخشى رجال الأمن، ولا يفزعه العودة إلى حبسه، إذ العيش هناك أنعم بالنسبة إليه من الحرية، في وقت تقدم فيه تركيا نفسها بلدا قويا ومستقلا لا يهاب، وروسيا لم تهدد أبدا باستخدام القوة العسكرية ضدها، فلما الخوف؟
وبالعودة إلى التاريخ يتبين كذلك، أن وزير الخارجية التركي على أدنى دراية بالماضي، بل هو ليس على معرفة بتاريخ بلاده أصلا، والتي تجرعت مرارة الهزائم الواحدة تلو الأخرى أمام روسيا، وتنازلت لها عن أراض بينها شبه جزيرة القرم وغيرها، وربما آخرها "المنطقة العازلة" شمال سوريا حتى أن بوتين تحدى أردوغان مؤخرا وعلى شاشات التلفاز بأن تحلق طائراته من الآن فصاعدا في أجواء سوريا.
جاويش أوغلو لم يرجع في التاريخ إلى حقبة القيصر الروسي إيفان الرهيب الذي كسر سطوة التتر والمغول، وطاردت جيوشه فلولهم حتى قازان وألحقت ما كان يخضع لهم من ملايين الكيلومترات من الأراضي بعائدية موسكو لتبقى إلى اليوم جزءا لا يتجزأ من روسيا.
ويبدو أيضا أنه لم يقرأ التاريخ الحديث، ولم يتعظ من خطيئة هتلر الذي كان أكثر موضوعية في تقييمه حينما بدأ حربه على الاتحاد السوفيتي صيف 1941.
زعيم النازيين أكد لجنده حينما أصدر أوامره لهم بالغزو، أنه لم يتبق أمامهم سوى حرب أخيرة وخاطفة بعد أن أركعوا سائر أوروبا، وأنهم قد "استحقوا" شرف كسر آخر وأعظم دولة في أوروبا والعالم والاحتفال بعيد الميلاد في الساحة الحمراء.
حرب هتلر لبلوغ موسكو في غضون بضعة أشهر استغرقت أربع سنوات، وأدركت جحافل ألمانيا النازية التي انهارت أمامها جيوش أوروبا قاطبة في معارك خاطفة، واستسلمت لها فرنسا في أربعين يوما، واستعرضها هتلر شخصيا في باريس، أدركت أن اجتياح روسيا لن يكون نزهة، وصارت تتفكر بمصداقية وعد هتلر بدخول عاصمة الروس، والاحتفال بعيد الميلاد المقبل في قدس أقداسهم.
نعم، مارشالات وجنرالات هتلر دخلوا موسكو، واستعرضوا في الساحة الحمراء كما تمنوا، ولكن وهم أسرى ببزاتهم ورتبهم العسكرية يتقدمون عشرات آلاف الأسرى من جنودهم استقدمهم الجيش الأحمر من معسكرات الاعتقال على متن قطارات كانت تستخدم لنقل المواشي من المعالف إلى مسالخها.
أهل موسكو، خرجوا إلى شوارع عاصمتهم واحتشدوا بالآلاف في مركزها لرؤية الغزاة مأسورين مهانين، يحرسهم فرسان الخيالة الروس حفاظا على سلامتهم من غضب الحشود.
وفي خطوة استعراضية ومأثورة تركت شاهدا للأجيال على مصير من تسول له نفسه "احتلال" أراضي روسيا وإركاع شعبها، سيرت بلدية موسكو في أعقاب استعراض الألمان أنفسهم أسرى أمام روسيا والتاريخ، صهاريج غسل الشوارع وشطفت من على أرض موسكو بالماء والصابون رجس المعتدين إلى الأبد.
أما هتلر صاحب فكرة غزو موسكو فلم يكتب له "الاحتفال" في مقدمة جيشه بعيد الميلاد في موسكو إذ مات منتحرا بغيظه، فالاحتفال كان على أراضي ألمانيا وتجسد في دخول الجيش الأحمر برلين وتنظيمه استعراض نصر مؤزر على عدو غاشم لم يعرف له التاريخ مثيلا.
ومنه، فإن وزير الخارجية التركي إذا ما كان جادا في تصريحه، ويتمتع بكامل قواه العقلية فإن التاريخ، وليس صاحب المقال، ينذره مسبقا هو والناتو بأن يتعظوا من دروس الماضي، إذ من سبقكم كان أعتى وأقوى. روسيا حينما سار غزاتها في شوارعها مأسورين، وفر منها نابليون وجيشه، لم يكن لها قوات تكتيكية واستراتيجية، ولم تكن تحميها درع وغواصات نووية تستطيع بها في غضون دقائق، لا في أقل من أسبوع تدمير أعظم جيش قد يعتدي.