علي هاشم
شهادة سمير في هذا التوقيت بالذات تعيد تشكيل حكاية المقاومة العربية ضد إسرائيل بكل محطاتها. هي قصة قرار المواجهة الأول وقصة قرار الصمود رغم السجن وخذلان الناصر وقصة العودة إلى الجبهة والإصرار على الاستمرار في النضال حتى الشهادة أو النصر، هي قصة الجبهات القديمة بعزها وإنتصاراتها وقصة الجبهات الجديدة المفتوحة على كل الإحتمالات، إنها باختصار كل الحكاية.
لم يستطع سمير القنطار أن يحجز لنفسه مكاناً في عالم ما بعد أسره إلا بصفة ضيف عزيز خجول، بدا وكأنه دوماً في حالة استعداد للمرحلة التالية التي ستأخذه بعيداً من برزخ الحرية الذي مر به في الطريق إلى مكان يرى فيه نفسه أكثر. بالنسبة للرجل صاحب العالم الخاصّ، كان المشهد مرسوماً بدقة على لوحة ذيلها بتوقيع "الشهيد سمير القنطار"، المشهد رسم قبل 36 عاماً وكان من المفترض عندها أن تكتمل الصورة وتعلق على حائط منزل آل القنطار في عبيه مذيّلة بذات التوقيع.
عاش سمير القنطار 36 عاماً فوق العمر الافتراضي الذي وضعه لنفسه، ثلاثون منها بنى خلالها حالة نضالية فكرية داخل المعتقل الإسرائيلي، صنع من نفسه أيقونة مقاومة عابرة للحدود، عابرة للطوائف، مهّد للحظة شهادة مؤجلة تروي الحكاية من عبيه إلى شاطئ صور في لبنان إلى نهاريا ثم المعتقلات الإسرائيلية على امتداد فلسطين، ومجدداً إلى لبنان إلى الناقورة وبيروت والجبل، وأخيراً إلى جرمانا في ريف عاصمة سوريا دمشق.
عرف سمير الفتى في عمر الخامسة عشرة أنه ملاق حتفه على يد إسرائيل، لكن ما لم يعرفه يومها أنه سيقتل بينما يضع لمساته الأخيرة على بنیان المقاومة السورية التي بدأ مخاض ولادتها قبل سنوات قليلة، وربما اغتيال سمير الخمسيني سيسرّع في نضوجها، قد تمشي خطاها الهوينا لكنها دون أدنى شك ستمشي من الآن ولاحقاً ولن تتوقف عن الحركة، تعرف إسرائيل ذلك جيداً، وتعرف المقاومة أن تلك مسؤوليتها من الآن ولاحقاً، فالرد على اغتيال أيقونة كسمير القنطار لا يساويه أي اغتيال مضاد، ولا عملية أمنية معقدة، ولا هجوم صاروخي على قوات احتلال، ردود موضعية كهذه مسكنة، الرد الحقيقي الذي يعوض دماء سمير القنطار هو تفعيل مقاومة سورية في الجولان تقض مضاجع الاحتلال وتفرض بالرصاص والدم أجندتها، وجداول أعمالها.
ينضم سمير القنطار إلى لائحة كبار المستشهدين، إلى عبد القادر الحسيني وغسان كنفاني والسيد عباس الموسوي وفتحي الشقاقي والشيخ أحمد ياسين ومحمود المبحوح وعماد مغنية وحسان اللقيس وأبو علي مصطفى وغيرهم، ينضم إلى لائحة طويلة لا تبدأ باسم محدد ولا اسم أخير عليها، هي لائحة "رجال صدقوا" التي تكبر مع كل كبير ينضم إليها ويوقع تحت اسمه بدمه "ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً".
لكن شهادة سمير في هذا التوقيت بالذات تعيد تشكيل حكاية المقاومة العربية ضد إسرائيل بكل محطاتها. هي قصة قرار المواجهة الأول الفتي رغم قلة الإمكانات والعمر الصغير، وقصة قرار الصمود رغم السجن ورغم الآلام والجراح وقلة العدد وخذلان الناصر، وقصة العودة إلى الجبهة والإصرار على الاستمرار في النضال حتى الشهادة أو النصر، هي قصة الجبهات القديمة بعزها وإنتصاراتها وقصة الجبهات الجديدة المفتوحة على كل الإحتمالات، إنها باختصار كل الحكاية.