فادي عبّود -
يفاجئني الخمول والسبات الذي يعيشه المجتمع اللبناني الذي لم تعد لديه أي رغبة في الانتفاض نحو التغيير. الشعور بالقرف يعمّ الجميع إلا أنّ هذا الشعور تحوّل إلى تدجين بحيث أصبحت كلّ القضايا تمرّ مرور الكرام. فالأمور التي من الممكن أن تقوّض عروشاً في بلدان أخرى تتحوّل عندنا إلى أمور روتينية طبيعية يبلعها الشعب بطيبة خاطر، من فضائح «سوليدير» التي سيطرت على وسط المدينة من دون رقابة، إلى مرفأ بيروت الذي يتقاضى رسوماً سيادية ويصرفها من دون المرور بقانون المحاسبة العمومية، إلى سوق حرة في مطار بيروت تعمل من دون مسوغ قانوني، إلى فضائح بالجملة تمرّ يومياً من دون أدنى ردّ فعل. ألا يوحدنا في لبنان إلا المطالبة بخروج النظام السوري حيث نزلت الملايين إلى الساحات؟ ألا يوجد غير هذا الوجود السوري يستحق أن تمتلئ الساحات للمطالبة به؟ ألا يستحق رفض النظام الطائفي البغيض الذي يكبّل مجتمعنا واقتصادنا أن نملأ الساحات لأجله؟ ألا تستحق اللامركزية الإدارية ذلك؟ ألا يستحق قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، المعلّق منذ أكثر من سنة، والذي يعطي المواطن الحق في الإطلاع على خفايا المال العام وعلى كيفية صرف الضرائب التي يدفعها؟ ألا تستحق فرص الإنتاج ثورة تهدّد عروش الجميع، فرص الإنتاج التي تبقى الأمل الأساسي في بقاء شبابنا على هذه الأرض؟
منذ مدة صدر حكم قضائي بحق المسؤولين عن قضية الباخرة «لطف الله 2»، اثنان سوريان متواريان عن الأنظار أما اللبناني الثالث الذي أدخل الأسلحة وقبض رشوة وهو يعرف ما هي البضاعة وغيّر المانيفستو وزوّر بيانات الباخرة أتى حكمه 6 أشهر سجن وغرامة 500 ألف ليرة لبنانية، ومرّ الحكم مرور الكرام. إنسان هدّد المجتمع وقبض رشوة تأتي عقوبته بهذا الشكل، أفلا نشجع الفساد بذلك؟ فهل شعر من يقوم بهذا العمل يومياً بالخوف والرهبة مما يقوم به؟ بالطبع كلا.
يبدو أنّ كلّ هذا لا يستحق، حتى فضيحة النفايات بلعها الشعب اللبناني ونام عليها، من دون الرغبة في القيام بأيّ شيء، حتى اقتراحات الفرز من المصدر والذي كتبت حوله مقالاً بعنوان «الفرز المنزلي اليوم قبل الغد» قابله البعض بالقول إننا نحلم، وأن لا تجاوب سيتمّ في موضوع الفرز المنزلي. حتى الفرز المنزلي والذي هو الأساس في كلّ المجتمعات نتعامل معه في لبنان باستخفاف ولا أحد على استعداد لتغيير طريقته القديمة. لا خلاص لمشكلة نفاياتنا من دون الفرز المنزلي أو حتى أقله فرز النفايات العضوية عن باقي المواد مما يوفر العديد من الآثار البيئية. فالفرز المنزلي في المرحلة الأولى يساعد من يودّ جمع هذه المواد، ومن الممكن تخزينها من دون انبعاث الروائح، وحتى تصبح ذات قيمة أكبر إذا أردنا تصديرها.
أما أكثر ما يثير العجب أن كلّ من تطرّقوا إلى الموضوع لم يطرحوا حلولاً جذرية للمعالجة، فإعادة التدوير وحدها لا تكفي، والطمر وحده كارثة بيئية، وما زلنا نستبعد طرق الحرق من دون الإطلاع على التقدّم الكبير الذي سلكته هذه الوسائل في الدول حول العالم.
ولم ندرك بعد أن أساس مشكلتنا هو احتكار هذا القطاع وتسليم رقبتنا لشركة واحدة تبتزنا مع الوقت لعدم وجود بديل كما هو حاصل اليوم، فنهوى إعطاء الحصرية لشركة واحدة لتفرض شروطها، وترى نفسها مع الوقت غير مضطرة لتطوير أدائها وأسعارها لأنها لا تتنافس مع أحد. لم ندرك بعد أن هذا القطاع هو صناعة بحدّ ذاته، حيث من حق كلّ المناطق أن تتنافس وتبتكر حلولاً من ضمن الشروط البيئية المعتمدة عالمياً، وبعد الأزمة سننتهي من «سوكلين» لنخترع «سوكلين» أخرى. وقبل استفحال الأزمة كتبت مقالاً تحذيرياً في «الأخبار» بتاريخ 15/1/2015 تحت عنوان: «معالجة النفايات: محاصصة أم سوق تنافسية؟» وأشرت فيه إلى «أن كلّ اتحاد بلديات أو محافظة يجب أن يؤمّن قطعة أرض للمعالجة. بعدها تجري مناقصات شفافة لإشراك أكبر عدد من شركات القطاع الخاص. تُقدّم الأرض للشركة الفائزة، المعالجة هنا تعني جمع الزبالة وفرزها لبيع ما يمكن بيعه، وحرق أو طمر ما لا يمكن بيعه عن طريق شركات القطاع الخاص التي أمّنت مطامر ومحارق وفق المواصفات العالمية، بالتالي يجب ألا تتعدى كلفة الطن 40 دولاراً، لأنّ الشركة التي ستجمع ستستفيد من بيع النفايات، أما ما لا تستطيع بيعه فتذهب به إلى المطامر والمحارق المملوكة من القطاع الخاص، وتدفع أكلاف التخلص من البقايا بحسب الأسعار التنافسية المطروحة». وهذه المطالب نفسها يطرحها المجتمع المدني اليوم.
أما الغريب اليوم فهو غياب المساءلة في ما خصّ المناقصات الجارية وطريقة إدارتها والشفافية المعتمدة وشروطها، وكيف ستختلف طريقة معالجة النفايات عبر هذه المناقصات عن الطريقة السابقة، والأسوأ هو طريقة إدارة هذه المناقصات، فمثلاً من يودّ الإطلاع على دفتر الشروط الخاص بتلزيم النفايات عليه دفع مبلغ 15000 دولار أميركي للإطلاع على الشروط. بالتالي بدأ غياب الشفافية من هنا، عبر عدم إشراك كلّ فئات المجتمع، ومن أمثلة المناقصات مثال مناقصات الخليوي التي استبعدت فيها شركة «أوراسكوم» عن المناقصة بسبب تأخرها ربع ساعة عن موعد تسليمها المستندات المطلوبة، شروط عشوائية توضع ولا من يسأل أو يحاسب.
ما زلنا نعالج مواضيعنا بالذهنية ذاتها، وما زلنا لا نبتدع الحلول ونرضخ بأن يقرّروا عنا في كلّ شيء عبر احتكاراتهم وحصصهم. نقبل بأن نكون خارج المعادلة، فلم يعد يستفزنا شيء، أو يزعجنا شيء، فتقلّصت أحلامنا وأهدافنا إلى حدود ضيّقة جداً! هكذا يتمّ تدجين المجتمعات، وهكذا تنتصر المصالح الكبرى!
وزير سابق