حبيب معلوف -
فيما يأخذ موضوع النفايات طريقه الى الحل المرحلي، على الحراك ان لا يتوقف. فهناك الكثير من القضايا البيئية والحياتية التي تشتهي الثورة وليس مجرد حراك. في طليعة هذه القضايا مشكلة تلوث الهواء الناجمة عن قطاعَي النقل وإنتاج الطاقة التي تفوق خطورة لناحية مخاطرها وتأثيرها في الصحة العامة وتسببها بأمراض قاتلة وزيادة الفاتورة الصحية، او لناحية الفساد الذي يضربهما، او لناحية حجم الهدر، او لناحية سوء الإدارة وضعف السياسات وانعدام الاستراتيجيات.
تشترك قضية تلوث الهواء مع قضية النفايات، بان مشكلتها الأساسية هي في سوء ادارة السلطة السياسية والوزارات والإدارات المعنية. فكما ان الدولة لم تحسن وضع استراتيجية لإدارة النفايات واختارت مواقع جديدة للمعالجة كبدائل عن مطمر الناعمة مع إجراءات تخفيفية عبر الضرائب والفرز، كذلك لم تضع استراتيجيات مختلفة في قطاعَي الطاقة والنقل وجعلت لبنان مرهونا بالكامل لكارتيلات تجار النفط ومشتقاته، ولسماسرة المعامل الحرارية والسيارات الخاصة. فكل سياسات الطاقة والنقل التاريخية كانت تركز على الوقود الاحفوري كأساس للإنتاج والاستخدام ولم تحاول يوما استبدال هذه السياسات او تطعيمها بالاتجاهات الجديدة لإنتاج الطاقة من مصادر متجددة كقوة المياه او الرياح او الشمس المتوفرة بشكل كبير في لبنان. كما صرفت الكثير من المال، اكثر من 40% من مصاريف التنمية بعد الطائف، لتطوير البنية التحتية، لا سيما توسيع الاوتوسترادات والأنفاق والجسور، تشجيعا لاستخدام السيارات الخاصة، بدل ان تعيد تسيير سكك الحديد وتطوير النقل العام، كما في أي دولة من دول العالم، المتقدمة منها والنامية. فقضية تلوث الهواء وتداعياتها الاقتصادية والصحية، اخطر من رائحة النفايات. فالكلفة الصحية لمعالجة الأمراض الناجمة عن تلوث الهواء قد بلغت 1,02 من الناتج المحلي الإجمالي في لبنان، بحسب دراسة الجامعة الاميركية العام 2014. كما كان من بين أهم ما توقعه التقرير الوطني الثاني حول تغير المناخ في لبنان، الذي أنجز العام 2011، هو ارتفاع درجات الحرارة والنقص في المتساقطات بحلول عام 2040. كما يتوقع التقرير ان تنخفض المتساقطات بين 10 و20% بحلول سنة 2040 و25 و45 % بحلول سنة 2090 مقارنة بالوضع الحالي، وأن يزداد عدد أيام الصيف الحارة والليالي الحارة شهرين على الأقل. كما أن سطح البحر سيرتفع تدريجياً بمعدل 20مم/سنة، مما يعني أن منسوب المياه قد يرتفع بين 30 إلى 60 سم في الثلاثين سنة القادمة، ومما سيؤثر حتماً في الشواطئ الرملية المتبقية في لبنان وفي محمية جزر النخل الطبيعية شمالا وعلى كل الشاطئ الذي بدأ الحراك المطالبة باسترداده كملك عام لجميع اللبنانيين وكونه ايكولوجيا ليس ملكا لأحد في الوقت نفسه.
فهل سيعتبر الحراك ما تحقق من إلغاء للمناقصات غير السليمة ومن تنحي وزير البيئة ووجود خطة مرحلية انتقالية، مطعمة بمطالب ثورية في ادارة النفايات تقوم على التخفيف من النفايات والفرز من المصدر، مكسبا مرحليا، ونقل الحراك الى موضوع آخر أكثر خطورة كتلوث الهواء وتصحيح سياسات الطاقة والنقل، قبل ان تأتي العاصفة ويحمّل مسؤولية تأخير تنفيذ خطة المرحلة الانتقالية الأقل ضررا عن طوفان النفايات في الشوارع والأنهر والبحر؟
تشترك قضية تلوث الهواء مع قضية تغير المناخ بانهما ناجمان عن المصادر نفسها، وان اطر وأساليب حل قضيتهما، مشتركة، أي تخفيف الانبعاثات المتسببة بهما. كما تظهر الدراسات ان متطلبات حل قضية تلوث الهواء الداخلي وقضية تغير المناخ تتطلبان تغييرا جوهريا في سياسات القطاعات المؤثرة، وان هذا التغيير المطلوب في سياسات القطاعات وفي الطليعة انتاج واستهلاك الطاقة وقطاع النقل، بالاضافة الى الانبعاثات المتولدة من الصناعات الكبيرة وفي طليعتها الاسمنت، ومن ثم الزراعة والنفايات وقطاع البناء وحرائق الغابات وأساليب التدفئة المختلفة... فان التغيير في كل هذه السياسات يساهم ايضا في حل الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، بالاضافة الى الحلول البيئية والصحية.
فلامركزية انتاج الطاقة تؤمن الكهرباء للجميع فعلا. وتشجيع ودعم النقل العام يخففان من الاعتماد على السيارة الخاصة التي تكلف اكثر من ثلاثة اضعاف الحد الادنى للأجور وتستنزف الاقتصاد الوطني واقتصاد الاسر بالصرف على السيارات وقطع غيارها بالعملات الصعبة.
الطاقة الأكثر تلويثا
إن إنتاج الكهرباء هو المتسبب الأول بالانبعاثات في لبنان، وقد بلغت نسبة انبعاثات غازات الدفيئة لعام 2004 حوالى 7261 جيغاغرام من مكافئات ثاني أوكسيد الكربون، ومن المتوقع أن تصل نسبة الانبعاثات عينها إلى 32569 جيغاغرام بحلول عام 2030، من محطات توليد الكهرباء والمولدات الخاصة. ويتأثر الطلب على الكهرباء بالتغيرات في درجة الحرارة ويترجم عملياً بانخفاض في نسبة الطلب خلال فصل الشتاء (نتيجة انخفاض الطلب للتدفئة)، وبارتفاع في تلك النسبة خلال فصل الصيف (نتيجة الطلب الكبير على التبريد). هذا ويتأثر توليد الكهرباء بالطاقة المائية بأي انحسار في نسبة المتساقطات، شأنها شأن توليد الكهرباء عبر الطاقتين الهوائية والشمسية اللتين تتأثران أيضاً بتغير سرعة الرياح والغطاء السحابي. بيد أن نماذج محاكاة المناخ في لبنان تتوقع حدوث تغيرات طفيفة في سرعة الرياح وانحساراً بسيطاً في الغطاء السحابي (بخاصة في المناطق الداخلية)، الأمر الذي يصب في مصلحة إنتاج الطاقة من مصدري الطاقة المتجددين الشمس والهواء.
ويرى تقرير تغير المناخ الثاني ان قدرة قطاع الطاقة على التكيف هي «متوسطة إلى منخفضة بشكل عام»، وذلك نتيجة النقص والتقنين القائمين، والتوسع البطيء لقدرة الإنتاج مع الوقت على الرغم من زيادة الطلب على الكهرباء والعجز الذي تعاني منه مؤسسة كهرباء لبنان.
ويوصي التقرير للمزيد من العمل في قطاع الكهرباء: بتحسين قواعد بيانات شركة كهرباء لبنان في ما يتعلّق بالطلب على الكهرباء وإنتاجها واستهلاكها، حصص الإنتاج من مختلف التكنولوجيات، زيادة مستوى النفاذ إلى قواعد البيانات تلك ومركزيتها، إجراء دراسات حول توزيع الطلب والاستهلاك بحسب القطاعات، وإجراء البحوث حول مختلف تكنولوجيات الطاقة المتجددة وجدواها في لبنان فضلاً عن أثرها في استهلاك الطاقة.
ويمكن ان يضاف الى هذه التوصيات، مطلب مركزي بدراسة كيفية توفير استهلاك الطاقة في القطاعات كافة وفي المنازل عبر القيام بتعديلات في قانون البناء ودعم سبل توفير الطاقة في البناء.
النقل وزيادة عدد السيارات
التقرير المذكور اعتبر قطاع النقل المسبب الثاني لتلوث الهواء ولتغير المناخ في لبنان بعد انتاج الطاقة، مع ان كل الدراسات المقارنة السابقة كانت تشير الى انه المسبب الاول. وهو يقدر انبعاثات غازات الدفيئة في لبنان التي تصدر عن قطاع النقل ما يعادل ۹٧٦،۳ جغ من مكافئات ثاني أوكسيد الكربون. وهذا يعود الى النسبة العالية لملكية السيارات الخاصة في لبنان (ملكية السيارات تقارب الـ۵۲٦ سيارة لكل ألف شخص). تتسبب كثرة السيارات كما هو معلوم بزحمة السير، التي تتسبب بدورها بزيادة الانبعاثات، خصوصا مع النسب العالية لأعداد السيارات القديمة. وقد ذكرت بعض المراجع المعنية بهذا الملف في الفترة الاخيرة ان تحسنا طرأ على نسب الانبعاثات من قطاع النقل مع دخول السيارات الصغيرة والجديدة القليلة الثمن والقليلة الانبعاثات الى السوق اللبنانية. الا ان هؤلاء لم يأخذوا بالاعتبار زيادة اعداد السيارات بشكل غير مسبوق أيضا، والعودة الى دوامة أزمة السير المسببة بزيادة تلوث الهواء على قاعدة ان السيارة في زحمة السير تلوث أكثر من ثلاثة أضعاف قدرتها فيما لو كانت تسير بسرعة نسبية.
هناك العديد من الدراسات والسياسات والنصوص التشريعية المعنية بالنقل، غير أنّ ما تم تنفيذه حتى الآن قليلٌ جداً، مما يُبقي القطاع في جوٍ من الفوضى يزداد سوءاً مع مرور الوقت وبخاصةٍ في فصل الصيف.
وحول خيارات التخفيف، يقترح التقرير «إعادة إحياء نظام النقل العام». يقوم هذا الخيار على إنشاء نظام فاعل للنقل العام ينعكس فيه توزيع استخدام الحافلات وتجهيز المواقف والمحطات على تحسين الأداء وتشجيع السكان على استخدام النقل العام المنظم كل يوم وتوفير السيارة الخاصة لأيام الإجازات ونهاية الأسبوع فقط.
بعض المضامين الإضافية للتقرير
تتألف الدراسة ـ التقرير من ألف صفحة بدأ العمل بها منذ عام 2007، وقد أنجزتها وزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع جامعة القديس يوسف وشركة الأرض للاستشارة البيئية. وهي كناية عن بيانات ومعلومات أساسية عن كميات ومصادر انبعاثات الغازات الدفيئة في لبنان وعرض عام لتدابير تخفيف زيادة هذه الانبــــعاثات وتقييم عن حجم وسرعة تأثير تغير المناخ في الأنظمة الطبيعية الاجتماعية والاقتصــــادية في لبنان، ومقترحات وتوصيات لصياغة استراتيجيات وسياسات التـــكيف مع هذه التأثيرات، وعـــرض عام للتدابير التي اتخـــذها أو يتوخى اتخاذها لبنان لتنفيذ بنود أحكــــام اتفاقية الأمم المتحدة الإطــارية بشأن تغير المناخ.
التقرير الأول كان قد أنجز عام 1999 بناء على موجبات الاتفاقية التي وقع عليها لبنان، والمطلوب من لبنان في التقرير الثاني ان يقدم الأرقام التي تعود إلى عام 2000 ليبين اثر تغير المناخ على القطاعات كافة، لا سيما الزراعة والسياحة والمياه والغابات والصحة.
يتوقع التقرير ان تتسبب التغيرات المناخية المتوقعة في منطقة الشرق الأوسط بتفاقم النزاعات القائمة في المنطقة حول توزيع الموارد، لا سيما المياه والأرض، ما قد يزيد من موجات الهجرة والنزوح. كما ستلقي بالمزيد من الأعباء والضغوط على قدرات التكيّف للكثير من المجتمعات، ما قد يهدد في بعض مناطق العالم الاستقرار الداخلي ويؤدي إلى انهيار دول في ظل هيكليات أزمات متشابكة، والصراعات بين الدول والضغط على النظام العالمي وآخرِها الأزمة الغذائية العالمية. تعهدت الحكومة اللبنانية (المستقيلة) في قمة كوبنهاغن برفع حصّة الطاقة البديلة من إجمالي الطاقة المستخدَمة في البلاد إلى 12% بحلول سنة 2020. فهل سيؤخذ هذا الموضوع على محمل الجد مع الحكومة الجديدة المنتظرة؟