مصطفى اللباد -
قلبت روسيا الموازين السورية والإقليمية بوجودها العسكري المعلن والمتزايد على الساحل السوري، بعدما جعلت التوازنات الإقليمية السائدة في الشهور الأخيرة هباءً منثوراً. أغلق الوجود العسكري الروسي في سوريا فصلاً مهماً امتد في المنطقة خلال العقد المنصرم، مفاده استئثار القوى الإقليمية بالصراعات وإدارتها بعدما فُتح الباب أمام عودة البعد الدولي لهذه الصراعات. من الآن فصاعداً، لم تعد الصراعات المحلية في ساحات الصراعات بالمنطقة حكراً على القوى الإقليمية الثلاث إيران والسعودية وتركيا، حيث يترسخ البعد الدولي للصراعات المحلية بصورة أكثر كثافة، وهي نتيجة سياسية عميقة تفيض على حدود الجغرافيا السورية والصراعات فيها وعليها.
التدخل الروسي في سياقه الزمني
كان ملاحظاً أن النجاحات العسكرية التي حققتها المعارضة السورية خلال الشهور الممتدة من ربيع العام وحتى الصيف الماضي تهدد جدياً بقاء النظام السوري. بالتزامن مع ذلك، أغلقت أميركا والسعودية أفق الحل السياسي المفضل روسياً عبر تأسيس «حكومة انتقالية» في سوريا يلعب فيها بشار الأسد دوراً مهماً، حيث طالبت السعودية باستبعاد الأسد من أي تسوية سياسية. ثم تطورت الأمور باتجاه الاتفاق الأميركي ـ التركي في تموز من هذا العام، والذي سمح لأميركا باستخدام «قاعدة إنجيرليك» لمقاتلة تنظيم «داعش»، وهو تطور نوعي لافت. وبدت موسكو غير واثقة من أن استخدام القوات الأميركية لهذه القاعدة سيخصص حصرياً لمقاتلة تنظيم «داعش»، وإنما قد يمتد إلى تكرار السابقة الليبية في سوريا وانفلاش التنظيمات الإرهابية عبر الحدود. كما أن القرب الروسي الجغرافي من المشرق العربي، والانخراط المعلن لفصائل جهادية متحدرة من الشيشان وجمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية سابقاً في التنظيمات الإرهابية المقاتلة على الأرض السورية، يشكل تهديداً مباشراً لروسيا عند ارتداده إلى الأراضي الروسية. هنا تختلف الحسابات الروسية عن مثيلاتها الأميركية في تقييمها لخطر «داعش» وأخواتها، على الأقل لاعتبارات القرب الجغرافي، حيث تستدعي مباشرة البعد الدولي للصراع في سوريا. يضاف إلى ذلك خشية بوتين من قدرة تركيا والسعودية ودول الخليج وخصوم النظام السوري مجتمعين على إقناع الرئيس الأميركي باتخاذ سياسة أكثر تشدداً حيال النظام السوري، خصوصاً مع فشل السياسات الأميركية الواضح حيال سوريا منذ العام 2011 حتى الآن.
من ناحية أخرى، ومع توقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب، فقد ارتابت موسكو من أن أميركا ربما تكون أقرب إلى تسهيل إسقاط النظام السوري لمعادلة النفوذ الايراني في المنطقة. ولعل لقاء الملك السعودي سلمان والرئيس الأميركي أوباما في البيت الأبيض والتصريحات الثنائية بخصوص سوريا قد قرع أجراس الإنذار مدوية في الكرملين. وبرغم امتناع أوباما عن التورط العسكري المباشر ضد النظام السوري حتى الآن بما أفقده صدقيته وهزّ صورته بوضوح، إلا أن بوتين ربما شعر بعدم وجود ضمانات كافية لاستمرار ذلك الامتناع في الفترة المقبلة. ومع تحليق الطيران الروسي في الأجواء السورية، يستبعد بوتين بخطوته الأخيرة وفوراً إمكانية توجيه ضربات جوية أميركية للنظام السوري من قائمة الاحتمالات الممكنة. وبرغم فوائد التسلسل الزمني للأحداث في تسليط الضوء على التطورات السورية، إلا أن قدراته التفسيرية تظل غير كافية مع ذلك.
الاستراتيجية الروسية الأوسع
يمكن تلخيص سياسات بوتين منذ توليه مقاليد الحكم في روسيا بمسألتين أساسيتين: الأولى داخلية ومفادها تأمين السيادة الكاملة لروسيا على أمورها الداخلية، عبر تحييد التأثير الخارجي على سياسة روسيا الداخلية وحشد الشعب الروسي وراء الفكرة الوطنية. أما المسألة الثانية فهي الحفاظ على حرية حركة على المسرح الدولي تسمح لروسيا بالحفاظ على مصالحها وراء البحار عموماً، وفي جوارها الجغرافي المباشر خصوصاً.
ويعني ذلك أن تتحدى روسيا النظام الدولي أحادي القطبية، عبر خلق موانع جيو ـ سياسية في مناطق جغرافية مختلفة لموازنة الضغوط الأميركية عليها في جوارها الجغرافي المباشر. وفي حين اضطرت روسيا في بداية التسعينيات من القرن الماضي إلى الانكفاء داخل حدودها، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي السابق، فقد عادت وتماسكت اقتصادياً بمرور الأعوام. حينها عمدت روسيا إلى إيجاد موطئ قدم لها في الصراعات الدائرة بالمناطق الجغرافية المحيطة بها، والتي تشكل أولوية أمنها القومي.
حدث ذلك في أوسيتيا الجنوبية وفي أبخازيا قبل سبع سنوات، ثم عاد وتكرر في شبه جزيرة القرم. ضمت روسيا شبه جزيرة القرم إليها، حيث يؤمن ذلك الضم «قاعدة سيفاستوبول» - مطل روسيا الوحيد على المياه الدافئة في البحر الأسود ـ ما يمكن روسيا لوجستياً من الوصول لاحقاً إلى البحر الأبيض المتوسط والمياه الدافئة. ثم عاد التوتر مع أوكرانيا ليتصاعد مع إعلان جمهوريتي «دونتسك الشعبية» و «لوهانسك الشعبية» في شرق أوكرانيا المواليتين لموسكو والمتمتعتين بمظلتها.
وتأتي شرق أوكرانيا في مقدم الأولويات الروسية، ومرد ذلك أن تمكّن النفوذ الغربي من أوكرانيا سيشكل تهديداً لبطن روسيا الرخوة من الجنوب الغربي. كما أن روسيا تنظر إلى شرق أوكرانيا باعتباره المخزن الأرثوذكسي الممتاز لمواجهة الزيادة السكانية الكبيرة للمسلمين داخل الاتحاد الروسي، وهو اعتبار مفصلي في الحسابات الروسية الداخلية. وفوق ذلك الاعتبار المهم يعطي وجود الانفصاليين في شرق أوكرانيا روسيا أداة ممتازة لمقارعة الغرب ومواجهة عقوباته الاقتصادية وضغوطه السياسية، عبر تسعير المواجهات في أوكرانيا بحسب الحاجة والمقتضى. في هذا السياق الأوسع يمكن رؤية الوجود العسكري الروسي المتزايد في سوريا ودعم القوات الموالية للنظام هناك، خصوصاً في مدن الساحل السوري. والمؤشرات الراهنة تدل على بقاء طويل لا عابر، لأن حجم ونوعية العتاد الروسي في اللاذقية وقابليته للتوسع كيفياً ونوعياً تتجاوز بكثير مهمة محاربة الإرهاب المعلنة. ومن شأن التحصن والتمكن من اللاذقية وطرطوس على الساحل السوري أن يؤمن لروسيا إطلالة ممتازة على شرق البحر الأبيض المتوسط، وموقعاً لا يبارى في التأثير على موازين القوى بالمشرق العربي والمنطقة.
في المقابل يبدو الثمن/المخاطرة السياسية مقبولاً، حيث تابعت موسكو على مدار السنوات الماضية السياسة الأميركية الضعيفة حيال سوريا، وتعرف أن إدارة أوباما ليست في وارد التصعيد المقابل في سوريا. وتدل السوابق التاريخية في جورجيا والقرم وأوكرانيا على أن روسيا فرضت إرادتها العسكرية في ساحات المواجهة بالوكالة مع أميركا، وأن الثمن كان عقوبات اقتصادية لا ترقى في شدتها إلى المكاسب الجيو ـ سياسية التي أحرزتها موسكو.
تكتيكات روسيا السورية
تعرف روسيا أن أي مفاوضات للحل النهائي في سوريا عرضة للفشل، لأن ذلك يتطلب موافقة جميع الفصائل المتحاربة ومن ورائها القوى الإقليمية الداعمة لها، وهو أمر غير مؤكد الحدوث. تحتاج موسكو إلى مناطق اهتمام مشترك مع واشنطن لخوض حوار معها حول جوارها الجغرافي من موقع الند والمقايض. في المقابل، تحتاج واشنطن إلى روسيا وإيران والقوات الموالية للنظام للوصول إلى حل سياسي تفاوضي في سوريا. وكلما اعتمدت واشنطن على موسكو لتسهيل الحل التفاوضي، تقدمت روسيا أكثر نحو تغليب منطقها الجيو ـ سياسي، وامتلكت ورقة مقايضة ممتازة في مواجهة الغرب وتدخلاته في فناء روسيا الخلفي. لذلك، فإن وجود روسيا المستجد في سوريا، بهذا الاتساع، يوفر الأرضية المناسبة للتفاوض حول سوريا مع واشنطن، ويمكّن موسكو من حفظ وجود مستدام في شرق المتوسط والمشرق العربي حال فشل المفاوضات مع واشنطن على الملف السوري وعبره إلى باقي الملفات المهمة لروسيا. على الأغلب، سيكون النظام السوري مرتاحاً أكثر عند الدخول في مفاوضات سياسية الآن بعد التدخل الروسي، لأنه سيضمن استمرار سيطرته على مناطقه المفضلة أو ما يعرف باسم «سوريا المفيدة»، وهي المناطق الممتدة من الساحل الى دمشق عبر حمص وحماة والتي تؤيدها كل من روسيا وايران.
على المدى المنظور، منعت الخطوة الروسية سقوط بشار الأسد الآن، وهي نتيجة كانت ستشكل خسارة سياسية كبرى لروسيا بعد كل الدعم والمساندة التي قدمتها للنظام خلال السنوات الماضية. أما على المدى المتوسط، فإن الحضور الروسي على الساحل السوري يعزز المركز التفاوضي لموسكو حيال واشنطن في ملفات المقايضة المختلفة، ضمن مفاوضات الوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية، وهو المنطق الأساسي الذي تعتمده موسكو في مقارعة النفوذ الأميركي في جوارها الجغرافي المباشر. وفي النهاية، وعلى المدى البعيد، يرسخ الوجود الروسي على الساحل السوري مع استمرار غياب أفق الحل السياسي فكرتين لا رابط مباشر بينهما: «سوريا المفيدة» مع مخاطرها التقسيمية الكبرى على البلاد، وتصاعد التوتر الروسي ـ الأميركي عالمياً وانعكاساته السلبية على بؤر الصراع المختلفة بينهما.
وفقاً لمنطق إدارة الصراعات الجيو ـ سياسية بين واشنطن وموسكو بالوكالة حول العالم، ربما تكون الخطوة الروسية مقدمة لحل سياسي في سوريا، لكن ضمن إطار ترسيخ البعد الدولي للصراعات المحلية وإنهاء احتكار القوى الإقليمية لإدارتها.