جان عزيز-
ليس تفصيلاً أن يعلن رئيس الوزراء البريطاني، دايفيد كاميرون، من بيروت بالذات، سلسلة من التصريحات والأدبيات، في جوهرها ربط منطقي بين ثلاثة أمور: أولاً النازحون السوريون في لبنان، ثانياً الاستقرار في هذا البلد، وثالثاً رئيس جديد لجمهوريته.
ليست المرة الأولى التي ترد هذه الثلاثية في القاموس الدبوماسي الدولي، المعتمد حالياً تجاه الأوضاع اللبنانية. حتى أن بعض الدبلوماسيين أسرّوها في بيروت منذ مدة، وباعتراف صريح قاس: كل ما يهم الغرب في لبنان، اليوم، هو حفظ الاستقرار فيه، بحيث لا تتدهور أمورنا فتبلغ حد الاضطراب الأمني الكبير أو الانفجار العسكري. لأن وضعاً كهذا سيؤدي حتماً إلى تداعيين خطيرين بالنسبة إلى الغرب: أولاً، التأثير سلباً على قدرة لبنان على الاستمرار في استقبال مزيد من النازحين. وثانياً، احتمال انتقال لبنان من وضع «مكان» لاستيعاب هؤلاء، إلى وضع منطلق لنزوحهم الثاني صوب الغرب نفسه. والتداعيان المذكوران يمثلان محظورين ومحذورين كبيرين بالنسبة إلى الغرب اليوم. يرى قادة الغرب أن أزمة النازحين السوريين التي تضرب أوروبا حالياً، من كبرى الأزمات التي واجهها هؤلاء في العقود الأخيرة، حتى أنها بدأت تحدث تفسخات ظاهرة في جدار الأنظمة والإجراءات المكونة لجسم الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، فالقادة الغربيون حريصون، إلى أقصى حد، على عدم حصول تطور جديد يفاقم تلك الأزمة. تطور من نوع انفجار الوضع في لبنان، بحيث يتوقف هذا البلد الصغير عن استقبال مزيد من النازحين، ما يعني مزيداً من نزوحهم صوب أوروبا. أو الأسوأ، أن يؤدي إلى بداية نزوح للمليون ونصف مليون سوري المقيمين في لبنان، ما قد يشكل أكبر موجة نزوح سورية صوب الغرب، منذ بداية الأحداث المأساوية في سوريا.
هكذا تتكرر مشهدية الاهتمام الغربي السلبي بلبنان. وهي المشهدية التي أدت دوماً إلى ثنائية في السياسات الغربية تجاه هذا البلد، تمثلت في أمرين اثنين: التلزيم، والوصاية الخارجية. سنة 1975، كان الاهتمام الغربي السلبي بلبنان، عنوانه الخوف من السلاح الفلسطيني. فكان أول تلزيم غربي للبنان إلى سوريا. وسنة 1988، كان الاهتمام الغربي السلبي بلبنان، عنوانه الخوف من «الفوضى اللبنانية» الشهيرة يومها. فكان التلزيم الغربي الثاني لبيروت إلى دمشق نفسها. وفي التلزيمين، شاءت المصادفة ــــ أو طبيعة تسلسل الأحداث والتطورات ــــ أن يكون الاستحقاق الرئاسي مناسبة لتجسيد الاهتمام السلبي المذكور، كما فرصة لتسييل التلزيم وإنجاز مقاصته الدولية. فكان اختيار رئيس للجمهورية اللبنانية في المحطتين، جزءاً من تلك المشهدية التلزيمية. سنة 1976، جيء بالياس سركيس، ضمانة للتلزيم الأول. وسنة 1989، جيء بالياس الهراوي ضمانة للتلزيم الثاني، بعد مخاض رينيه معوض.
عند هذا الحد، يتضح أكثر المكون الثالث في خطاب دايفيد كاميرون – ومن خلفه كل الغرب – في بيروت أمس: رئيس جديد للجمهورية. أي أن المطلوب رئيس يحفظ الاستقرار في لبنان، من أجل الحؤول دون «تسرب» النازحين من لبنان إلى خارجه، ومن أجل ضمان قدرة لبنان على الاستمرار في استقبال نازحين جدد.
لكن تبقى معضلة التلزيم الثالث. من يكون الملتزم هذه المرة، في ظل انفجار سوريا، وعجز أي طرف إقليمي أو دولي آخر عن القيام بالمهمة؟! الواضح حتى اللحظة أن لا حل لهذه المعضلة. والواضح أيضاً أن لا قدرة على إيجاد ملتزم جديد في المدى الزمني المنظور. لكن الواضح أيضاً وأيضاً، أن التفكير يتجه نحو إقامة معادلة متعددة الحسابات والأطراف، تقوم مقام الملتزم المفقود. معادلة يمكن أن تبنى على افتراض المصالح التالية:
أولاً، أن يكون هذا «الحل اللبناني» ملائماً، لا لحسابات الغرب الخاصة في موضوع النازحين وحسب. بل أن يكون الحل نفسه مندرجاً ضمن حسابات «الحل السوري» المطلوب. لا بل أن يكون مطابقاً لحسابات أطراف الصراع في سوريا كافة. فسوريا التي لن تعود قطعاً إلى ما كانت عليه في آذار 2011، تلتقي على أرضها الآن مصالح غربية وعربية، سورية وسعودية وتركية وربما إيرانية، تعيد رسم خارطتها، بحيث يأتي «الحل اللبناني» والغربي لقسم من نازحيها، متمماً لحل أزمتها. وإلا، فما سر هذا التهافت الغربي على معالجة وضع نازحيها، في شكل متزامن مع تقدم المبادرات الدولية لتحقيق تسوية ما لحروبها؟! وما هو سر أن تتفاقم أزمة نازحيها الآن، في ظل تراجع حدة الاشتباكات داخلها، أكثر مما شكلته هذه الأزمة، في مرحلة معاركها الأكثر دموية وتهجيراً؟!
ثانياً، أن يكون «الحل اللبناني» نفسه، ملائماً لحسابات اسرائيل. خصوصاً إذا كان الرئيس الجديد المطلوب من ضمن هذا الحل، قادراً على عزل المقاومة، أو على الأقل، إفقادها موقعاً من مواقع قوتها.
هكذا تكون الاستعاضة عن الملتزم الخارجي لمشروع الوصاية الجديدة، تركيبة دولية تخدم مصالح الجميع، وتؤمن صرف حساباتهم من رصيد وطن لم يقبله الخارج يوماً، إلا وفق كذبة قوته في ضعفه.
ما لم يقله دايفيد كاميرون صراحة أمس، أن هاجس الغرب لبنانياً الآن، هو رئيس يغطي بقاء النازحين، ويبصم على استمرار النزوح، ويساهم في محاصرة المقاومة بمعادلة خشبية جديدة. ما لم يقله ضيفنا البريطاني، كشفته وكالة رسمية للأنباء، حين ترجمت تصريحه الرسمي بالقول، أن المطلوب هو «تعيين رئيس جديد»، للبنان قديم جداً في عرف الغرب، كما في عرف غالبية طبقة سياسيينا وروحيينا و»مدنيينا».