ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الاحد في كنيسة الصرح البطريركي في الديمان، عاونه فيه المونسنيور سيمون فضول والمونسنيور فيكتور كيروز وكهنة من أميركا وكندا، وخدمت القداس جوقة كفرصغاب، في حضور حشد من الشخصيات والاهالي.
بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان: "خطاياها الكثيرة مغفورة لها، لأنها أحبت كثيرا" (لو 47:7)، ومما جاء فيها: "أظهرت هذه المرأة ايمانا كبيرا بأن يسوع قادر أن يغفر خطاياها، فعبرت عنه بتوبة صادقة بسكب الطيب وذرف الدموع على قدميه وبتقبيلها. وهذا كان دليل حب نقي ومخلص للرب، فغفر خطاياها بحبه الكبير. وقال لسمعان الفريسي والحاضرين:" خطاياها الكثيرة مغفورة لها، لأنها أحبت كثيرا" (لو 47:7).
أضاف: "يسعدنا ان نحتفل معا بالليتورجيا الالهية، في هذا الأحد الخامس عشر من زمن العنصرة. فنحيي جميع المشاركين فيها، اكسرخوس افريقيا والكهنة الآتين من اميركا وكندا، وبخاصة رعية كفرصغاب بكهنتها ومؤمنيها وجوقتها. ونحيي عائلة المرحوم المونسنيور ميشال ابي صعب الذي ودعناه الوداع الأخير منذ أسبوعين. إننا نذكره بصلاتنا ونجدد التعازي الحارة عن فقده. ونحتفل في هذا اليوم بعيد الطوباوي الاخ اسطفان من الرهبانية اللبنانية المارونية الذي عاش بمحبة كاملة لله وسير دائم تحت نظره بروح التوبة والتزام المسلك الصالح، وعمل الخير للجميع، عملا بشعاره: "الله يراني".
وتابع: "وإنا نرحب بكم جميعا، سائلين الله ان يساعدنا على فتح قلوبنا لقبول هبة المحبة المسكوبة فيها بالروح القدس، والعيش الدائم " في محبته بحفظ وصاياه ورسومه" (راجع يو 14: 15).
أضاف: "إننا نفرح مع الكنيسة السريانية الانطاكية الكاثوليكية بإعلان الطوباوي الأسقف الشهيد مار فلابيوس ميخائيل ملكي، مطران جزيرة ابن عمر في تركيا، حيث استشهد في 29 آب 1915، أثناء مجازر "سيفو" التي وقع ضحيتها عشرات الألوف من أبناء هذه الكنيسة، فضلا عن الإبادة الأرمنية والكلدانية واليونانية والاشورية في تلك السنة المشؤومة، وقد تم امس الاحتفال بتطويبه. نطلب شفاعة الطوباوي الجديد الشهيد لنيل الصمود في الإيمان والشهادة المسيحية لإنجيل المسيح في هذا المشرق".
وقال: "مغفورة لها خطاياها الكثيرة، لانها أحبت كثيرا" (لو 47:7). أجل، أحبت هذه المرأة الخاطئة الرب المسيح وآمنت به ايمانا نبويا، مدركة أنه قادر، بعظم محبته للبشر، على مغفرة خطاياها الكثيرة. هذه المحبة وهذا الايمان ظهرا في افعال التواضع والتوبة: كرمت يسوع بأثمن ما تملك، فجاءت من ورائه وسكبت الطيب على قدميه، وذرفت عليها دموع التوبة، ونشفتها بشعرها الذي هو زينة رأسها. فكان من يسوع، بعد امتداح حبها الكبير امام مضيفه سمعان الفريسي والحاضرين، أن قال لها: " ايمانك خلصك، فاذهبي بسلام" (لو 50:7).
أضاف: "لا يسعنا أمام هذه الحادثة الا التماس مثل هذا الايمان، الذي هو عطية من الله: اذا قبلناها، أفهمتنا الحقيقة الالهية، وعلمتنا طريقة اللجوء الى المسيح الإله، لالتماس نعمته الشافية، وأزكت في قلوبنا الحب لله ولجميع الناس.
لا يوجد اليوم عند الكثيرين من الناس، وبخاصة عند المسؤولين السياسيين، إيمان وحب حقيقيان كما يظهر لدى الذين لا يمارسون الواجبات الدينية يوم الأحد، الذي هو يوم الرب. ولذلك، لا توجد توبة وارتداد عن الشر، بل يوجد إهمال كلي لله ولرسومه ووصاياه. فكثر الشر والفساد والانانية والبغض. وكثر القتل الجسدي والروحي والمعنوي، وتدنت الاخلاق واستبيح كل ما يخالف إرادة الله والكتب المقدسة وتعليم الكنيسة.
وهكذا، اتسعت الخطيئة الشخصية الى أن أصبحت خطيئة اجتماعية، وأضحى المجتمع يعيش في هيكلية خطيئة، على ما يقول القديس البابا يوحنا بولس الثاني في ارشاده الرسولي "المصالحة والتوبة في رسالة الكنيسة اليوم"، موضحا أن الخطيئة الاجتماعية هي مجموعة خطايا شخصية لم يتب عنها أصحابها، فولدت واقع "هيكلية خطيئة".
وقال: "هذه كلها من نتائج الذهنية الاستهلاكية السائدة، والآخذة بالاتساع، والتي نبه إليها قداسة البابا فرنسيس في رسالته العامة "المحافظة على بيتنا المشترك". فقال انها تجعل الانسان في سعي دائم الى تكديس خيرات الارض لنفسه، وتلبية رغباته وميوله، أمشروعة كانت أم غير مشروعة، من دون أي اعتبار للشريعة الالهية والأخلاقية. وأضاف البابا فرنسيس:" بمقدار ما يكون قلب الشخص البشري فارغا، بمقدار ذلك يبقى بحاجة الى تكديس أشياء من حطام الدنيا وشرائها وامتلاكها واستهلاكها. في هذه الحالة، لا يبدو ممكنا ان يقبل هذا الشخص بواقع آخر يضع له حدودا. وعلى المدى المنظور لا يوجد بالتالي خير عام حقيقي. هذا الشخص، اذا سعى الى السيطرة في المجتمع، لا يحترم أية قوانين تعاكس مصالحه الشخصية. ولذا، وجب علينا ألا نحصر التفكير بالظاهرات المناخية، والكوارث الطبيعية الكبيرة، بل يجب التحسب أيضا للكوارث المتأتِية من الأزمات الاجتماعية التي يتسبب بها أولئك الذين يتصرفون بمثل هذه الذهنية الاستهلاكية" (الفقرة 204).
وتابع: "معلوم أن الذهنية الاستهلاكية لا تتوقف فقط عند المأكل والمشرب والملبس ومقتنيات هذه الدنيا، وميول الحياة وانحرافاتها، لكنها تتسع لتشمل الساعين بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة إلى الحصول على السلطة والاحتفاظ بها، وإلى النفوذ والاستكبار. ولتشمل أيضا أهداف أمراء الحرب، من دول وتنظيمات إرهابية، ومصالحهم، كما هي الحال في العراق وسوريا واليمن وفلسطين وسواها. وهي مصالح أصبحت واضحة في أهدافها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية".
وقال: "إن الحالة المأساوية التي وصلنا اليها في لبنان انما هي النتيجة لتفشي الذهنية الاستهلاكية المادية والسياسية والاخلاقية التي تحتل الاولوية على حساب قيام الدولة القادرة بمؤسساتها الدستورية والعامة. هي المآرب الشخصية المادية والسياسية التي تعطل انتخاب رئيس للجمهورية منذ سنة وخمسة اشهر كاملة، وتعطل بالتالي عمل المجلس النيابي، وتنذر بشلل الحكومة، وتحمي الجرائم والفوضى الأمنية والفساد وسلب المال العام، وتستهتر بحياة المواطنين وسلامتهم، وتحرمهم من أبسط حقوقهم الأساسية".
أضاف: "لهذا السبب، قامت التظاهرات الشبابية والشعبية المحقة من المجتمع المدني في العاصمة اللبنانية وعواصم بلدان الانتشار. فلا يمكن ولا يجوز ان تميع في مطالبها بالطرق الكاذبة، ولا أن تنحرف هي عن هدفها الأساسي وهو المطالبة برجال دولة يمارسون السياسة النبيلة القائمة على الحقيقة والعدالة والتجرد والتفاني في تأمين الخير العام بكل أوضاعه الاقتصادية والمعيشية والصحية والأمنية، وبكل مقتضياته التشريعية والاجرائية والإدارية والقضائية. ولكن، من أجل البلوغ إلى هذه الغاية، يجب الدخول من الباب المؤدي اليها، وهو انتخاب رئيس للجمهورية فورا وبحسب الاصول الدستورية".
وختم الراعي: "إننا نصلي ونلتمس شفاعة الطوباوي الشهيد المطران ميخائيل وشفاعة الأخ اسطفان، لكي نعيش مثله كلنا، وبخاصة الأشخاص الذين يعملون في الحقل السياسي والعام، متبنين شعاره :"الله يراني". فنستمد من حضور الله النور والقوة والنعمة، وننصرف إلى كلِ عمل صالح مرضي لديه، ومفيد لكل انسان. فلنصل في كل صباح وقبل أي عمل وموقف ومبادرة صلاة المزمور:" أضع الرب عن يميني، فلا أتزعزع" (مز 8:16). له المجد والشكر الى الابد. آمين".