إيلي فيليب داريدو -
أجريت حواراً فكريّاً ووجدانيّاً يوماً علنيّ أصِل إلى نتيجةٍ ملموسة قوامها ثقافة الفرد اللبنانيّ مقابل الوضع الحاضر:
بدأت الفكرة عندما قرأت إحصاءاً يقول أنَّ الجزء الأكبر من اللبنانيين لم يعد يقرأ ويحلِّل، وإنَّ أعداد الكتب أصبحت ضئيلة مقارنةً مع باقي الدول المتقدِّمة والمتطوِّرة.
إنزعجت من التعميم النظريّ الحاصل على فئةٍ كبيرة من اللبنانيّين فأبحرت في الأسباب ورأيت أن أوردها بالتسلسل وهي التالية:
1- هناك مثلٌ فرنسيّ يقول "البطن الفارغ لا حجّة منطقيَّة عنده". الفراغ بدأ فعلاً منذ حرب سنة 1975، وهنا أبتعد عن الأسباب السياسيّة الإقليميّة منها والمحليَّة التي سببت هذا الواقع إنما أشدّد على الواقع الإجتماعي – الإقتصادي معاً.
فعندما تندلع حرب داخليّة تابعة للإقليم يتجه الفرد بحكم الغريزة وحب البقاء إلى أن يتصارع مع الواقع، فيذهب مباشرةً إلى حماية نفسه مع عائلته وتصبح أولوياته مادية، غريزيّة، آنيّة دون سواها من الأمور.
2- الكتاب في زمن الحروب لا يملأ حاجة ولا يعطي ملجأً ، ولا يسحب قارئه إلى المدى البعيد. إلى جانب أنَّ الفرد تضيع حماسته فيتقارب مع اللحظة التي تبقيه حيّاً وتقيه شرَّ البليّة.
3- عدم الإستقرار الأمني لا يحسُّ فيه المرء أنَّ لديه زاويته الخاصة، ولا ركنه الآمن، فيصبح بعداء مع الكتاب الذي يناديه إلى جلسةٍ حميمة مستقرة بعيداً عن الجلبة.
4- هذا الإنتقال الدائم، وفقدان الحميميّة، لا تحمّس الفرد ان يقتني كتاباً ليقرأه، بل يحاول أن يقترض كتاباً. فإذا قرأه يصبح مصير الإسترداد حيطاناً فارغة لا تزيّنها المكتبات الشخصيّة بل شظايا قذائف ورصاص تخرق البنيان والمقتنيات وتعرّضها إلى نيرانٍ حمراء وسوداء وتقتل كل الماضي الثقافي المقروء المكتوب وتمحي التراث الفردي والجماعي من كل بيتٍ وزاوية عامة.
5- إذا اقترنت الذاكرة مع الحس ومع الثقافة، فإن الكتاب، وإن حاولنا قراءته لا يجدي نفعاً خصوصاً مع محاولتنا أن نلخِّصه للأجيال القادمة. فالعلاقات البشرية بين الأجيال، بعد حرب شرسة تخلق شرخاً لا يصيبح فيه الصغير يتحمل من الكبير شيئاً أكان نظرياً أم عمليا في الحياة العامة اليوميّة، كأن العلاقة أصيبت بفقدان ثقة بين الأعمار والأجيال حتى داخل الأسرة الواحدة.
6- ولادة الكمبيوتر تعدُّ مصيبة كبيرة. وقد ولّدت هذه الآلة عند الناس شعوراً وأفكاراً على مستويات الاعمار والأفراد:
• فئة الصغار تعتبره مادة تسلية ومغامرات تشوبها العنف واللون الأحمر ويذهب فيها الصغير إلى أقصى وقته فتصبح مادة قاتلة لشغله ودرسه اليوميّ.
• فئة الشباب والمراهقة: تعتبره هروباً من البحث عن الثقافة ومن أفكار وخبرات المؤلّفين والكتّاب، ومن الصفحات المتروسة والسطور الصغيرة والكلمات الرنانة والمنمَّقة والمعاني العريضة التي في بعضها تلخِّصُ خبرة كبار مفكّري العالم. إنّ الشباب المراهق تعتبر هذه الآلة تواصلاً إجتماعياً، فنصوِّر في داخلها المأكل والمشرب والسهرات السطحيَّة والعناوين الفارغة لحفلاتٍ لا معناً ولا قيمة لها في هذا التواصل الوهميّ. إنَّ الرموز والمحطات والمواقع وسائل حديثة يتعاطى فيها الشباب المراهق فتعلِّمهم سرعة تحصيل المعلومات والحقائق لكن لا تعلّمهم ربط الأمور منطقيّاً بعضها مع بعض. خصوصاً أن هذه الآلة تحرّكها أسطوانات ذات مواضيع عديدة لكن غير مترابطة مع بعضها سوى أنها تعتمد على الحركية الفكريّة والثقافيّة والتحليليّة للفرد الذي يستعمل هذه الآلة لغاياةٍ خصوصيّة.
الآلة تعطي لكنها لا تربط، بعكس الكتاب تماماً الذي يدور حول فكرة المؤلف الرئيسيّة فيدرسها ويشبعها تحليلاً ويربطها بمواضيع عديدة ذات أبعاد إنسانيّة وثقافيّة تدور حول شؤون وشجون الفرد في الزمان والمكان الخاصين بالقارىء.
من موقف هاتين الفئتين حطَّ الكتاب رحاله وتراجعت أعداده بين كثرةٍ من الافراد، وجنح العصر إلى إعتماد الآلة بدل الكتاب.
وهذا الاخير بدأ يحفر خندقاً في أرض الفكر والثقافة ويموت أسفاً في اروقة المكان والزمان وربما على غير رجعة.
ملاحظة ايضاً يمكن اضافة أنَّ الجرائد المكتوبة والتحليلات في داخلها ستصبح في خبر كان لأنها فقط من سليل المرحوم الكتاب.
كتابة الأستاذ إيلي فيليب داريدو
صادرة عن مكتب التوجيه في جمعية نُسروتو