Quantcast
Viewing all articles
Browse latest Browse all 174849

متى يصبح العصيان المدني واجبًا؟ (د. ادكار طرابلسي)

Image may be NSFW.
Clik here to view.


في الإيمان المسيحيّ يقيم الله الحكّام من دون أن يُعطيهم وكالة غير قابلة للعزل من الناس. فسلطان الحاكم ليس مطلقًا، ويبقى الله وحده إله أرواح البشر. وتأمر الوصيّة بإكرام الملك، إلاّ أن الرّسل، وقبلهم الأنبياء، اعترضوا على الأحكام الخاطئة والجائرة. نرى الرسول بطرس يعترض على أحكام الحاكم متسلحاً بحريّة الضمير و"بطاعة الله أكثر من طاعة الناس". وها الرسول بولس يعتصم بالقانون، وبحقوق المواطنيّة، ليرفض القمع والتعذيب والذّل والطرد وليدافع عن نفسه. ألهمت مواقف بطرس وبولس وغيرهما أجيال المسيحيّين فشكّلوا حالة اعتراض ناعمة ومستمرة على قياصرة روما فأدّى بهم ذلك إلى النيران والوحوش ودفعوا الأثمان الغالية حتّى تحقّقت لهم ولغيرهم حرية الضمير والمعتقد في إعلان ميلان (313 م).

 

ماذا نعمل بالحاكم الطاغية؟

وحتى لا يُظنّ أن موضوع الاعتراض يقف ضمن حدود الدفاع عن الحريّة الدينيّة وحسب، عالج آباء الكنيسة ولاهوتيّوها الكبار مسألة الاعتراض على الحاكم الطاغية. وحثّ توما الأكويني (1225-1274) الشعب على ألاّ يأتي بحاكم يتحوّل إلى طاغية. أمّا إذا استحال تفادي شروره فسيضطر الشعب عندها إلى أن يزيله من موقعه. والشعب غير ملزم بطاعة الحاكم عندما يطلب ما هو غير مُحقّ وضدّ القانونين الإلهيّ والطبيعيّ ويناقض دستور البلاد ومواثيقها. ولم يكن الملك، حتى في القرون الوسطى، فوق القانون فهو مسؤول عن أحكامه ومُضطر إلى الاستجابة لاعتراضات الشعب والأمراء عليه وإلاّ حقَّ لهم الخروج على طاعته. ويقول الأكويني في معالجته موضوع الدفاع عن النفس أنّه كما يحقّ لنا الدفاع عن أنفسنا من السارقين، يحقّ لنا كذلك أن ندافع عن أنفسنا من ظلم الحكّام الذين يسرقوننا ويسفكون دماءنا. طبعًا لا يُشجّع الأكويني على اعتماد الحلول الدمويّة للتخلّص من الحاكم.

تطوّر التفكير المسيحيّ في مناقشة حقّ الاعتراض على الحاكم؛ ولم يقبل البعض أي اعتراض إلا لأسباب دينيّة، فيما رأى آخرون، ومنهم جون لوك (1632-1714)، أنّه وفي حال تحوّل الحاكم إلى ظالم وخَطِر وقهّار لشعبه يصبح الاعتراض عليه، لا بل الثورة ضدّه، واجب أخلاقيّ. بل أن البعض يظنّ أنّه على قادة الشعب أن يحموا مواطنيهم من ظلم الرؤساء في حال أصرّوا على ارتكاب الجرائم ضدّهم. وقد اعتبر كبار الفلاسفة واللاهوتيّون أن الحكومة التي تقهر شعبها تفقد شرعيّتها وتتحوّل إلى عصابة مجرمة تتنكّر بزيّ حكوميّ ولا تستحقّ الطاعة التي تطلبها الحكومات.

 

حذار التهوّر

إلا أنه تبقى أسئلة كبرى يُجيب عليها من يؤيّد العصيان المدنيّ أو القيام بالثورة، قبل الشروع في عمليّة التغيير المبتغاة، ومنها: (1) من يُحدّد فساد الحكومة ودنو وقت تغييرها؟ (2) ما العمل في مواجهة انقسام الرأي العام بين مؤيّد للحكومة ومعارض لها؟ (3) كيف تُدار الثورة ويُحافظ في أثناءها على سلامة الناس ومن بعدها على مفهوم السلطة ووحدة المؤسّسات وحكم القانون؟

تحتاج الإجابة على هذه الأسئلة إلى قادة رأي متزنين يبحثون في جوهر القانون الطبيعيّ وفلسفة الدولة والسلطة وحقوق الإنسان لتبرير العصيان على أساس الاحتكام إلى قانون أسمى يتجاوز بنظرهم سلطة الحكومة. يشهد التاريخ لقادة كبار اعتمدوا العصيان المدنيّ، ومنهم ألماهتما غاندي ومارتن لوثر كينغ، أثقلتهم هموم شعوبهم وأتعبتهم الأحكام غير الأخلاقيّة والتشريعات الجائرة التي سنّها حكّام البلاد. لم يعتمدوا في تحرّكهم طُرُقًا شريرة وعنفيّة بلّ أضحوا ضحايا تحرّكاتهم التي أفضت إلى تغيير الأحوال إلى الأحسن. أمّا الثورات المبنيّة على الغوغائيّة والانفعال فلا ينتج عنها سوى الدمار والآلام والخسائر التي لا تُعوّض.


Viewing all articles
Browse latest Browse all 174849

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>