بقلم جورج عبيد -
أظهر الأرثوذكس في رعيّة القديس أنطونيوس الكبير في فرن الشباك محبتهم الفائقة لإخوتهم الموارنة في رعية سيدة لورد خلال احتفالهم بأحد الشعانين بحسب التقويم الغربيّ. فبعد أن احتفلوا بالقداس الإلهيّ، ورفعوا الإيقونات بتطواف مهيب في الأحد الأوّل من الصوم وهو المسمّى بطقوسهم وبالتقويم الشرقيّ أحد الأرثوذكسيّة، أي أحد استقامة الرأي في المفهوم العقيديّ، خرج كاهن الرعيّة الأب جهاد أبو مراد ومعاونه الأب ميشال أبو حيدر إلى خارج كنيسته لابسًا حلّته الكهنوتيّة كاملة وعلى رأس أبناء الرعيّة ليلاقيا الأب خليل شلفون ومعاونيه وعلى رأس أبناء كنيسة سيدة لورد ليشاركوهم بفرح كبير ذكرى الشعانين أي دخول السيد إلى أورشليم، هذا الذي سيقبل الأرثوذكس إليه بعد حوالي الشهر من الآن. ماذا عنى للأرثوذكس برفع الأيقونات والتطواف بها؟ ليست الخدمة للوقوف أمام الحدث التاريخيّ الكبير المكتوب بالدم من سنة 726 حتى سنة 842 في لحظة إضطهاد الإمبراطورية البيزنطية لمن وجدوا في الإيقونة مطلاًّ "لملائكة السماء تصعد وتنزل"، ومدى لكتابة الكلمة بالوهج الذي أمسى وهجًا بفعل التجسّد. الأساس في الأيقونة هو المسيح المتجسّد خلف كلّ فن وجمال، وقد طاف الأرثوذكسيون البارحة بالمسيح المتجسّد بصورة جذريّة بعد أن قبل الارتفاع على الصليب لينجي الذين خلق من عبوديّة العدوّ أي الموت والكفر. كان التطواف البارحة نوعًا من شعانين مصغّرة أضيف إلى يسوع بإكرام شديد والدته مريم والقديسون الشفعاء، فقال الطائفون بأنهم لأهل السماء عشراء، وهم مواطنوها في كل حال وتواقون لتكون في هذا الزمان.
بعد التطواف بالأيقونات جاءت مشاركة الأرثوذكس للموارنة. فاللقاء كان توقًا لوحدة نؤتاها بالمسيح الواحد. كلنا البارحة حملنا المسيح وطفنا به معترفين بانّه إله ومالئ الكلّ بمحبّته ورحمته. ليست أشكال الطقوس هامّة، بل الأهم أن نخرج منها إلى الحقّ، وما كانت لتكون لولا هذا الحقّ فيها. لم يتجسّد المسيح بالمعنى التاريخيّ ليصير جزءًا من عالم منقسم، وما جاء موته على الخشبة سوى تحريرًا وجوديًّا لكل انقسام إذا شفّت القلوب وصفت النفوس وتلاقحت العقول وتناضحت بالحبّ. حقّق السيّد كلّ ذلك وهو عالم بأنّ "مملكة ستقوم على مملكة"، ولكن لماذا كنيسته باتت من أهل هذا العالم الممزّق على نفسه، فهي ليست مملكة بالمعنى التقليديّ للكلمة، هي الكنيسة المؤسسة على سرّ الشكر في العشاء الأخير، والمستندة بتطلعاتها إلى لاهوت تأسس بأصله وجوهره من بولس ويوحنّا وإشعياء في العهد القديم، واستكمل التأسيس بسبب البدع المتراكمة بدءًا من البدعة الآريوسيّة محاولة حجب المسيح الإله الذي تجسّد ومات وقام على الصليب، بالمجامع المسكونيّة السبعة حيث في المجمعين الأوّلين (مجمع نيقية سنة 325 ومجمع القسطنطينيّة الثاني سنة 380) كتب دستور الإيمان بلا تغيير او تبديل وقد أعتمد كنصّ ثابت في الألفية الأولى قبل الانشقاق. وفي واقع الأمور ليس ثمّة خلاف عقائديّ كبير بالجوهر المسيحانيّ الكامل أو المطلق، بل اخترعت مالفات عقائديّة لتعزيز سيادة كنيسة على حساب أخرى بالتأكيد على الانشقاق. إنّه خلاف مألفات ومفاهيم استجمعت من جوهر الانقسام وتراكمت واستكمل في الخلاف بين التقويمين الغربيّ والشرقيّ لعيد الفصح.
في هذا الموسم وفي كل مرة يحلّ فيه الصوم الكبير وصولاً إلى الشعانين والأسبوع العظيم المقدّس والفصح يطرح سؤال واحد ووحيد وبخاصّة حين يأتي الفرق في التقويمين بعيدًا جدًّا كما هذه السنة، متى يتوّحد العيد؟ لكنّ السؤال الأبرز الذي لم أسمعه من احد يطرح، متى نتوحّد نحن في المسيح الواحد فينا؟ ذلك أنّ معظم من يقبلون إلى هذا الموسم الطيب والبهيّ بطقوسه لا يعنون بالرؤية المسيحيّة الكاملة، ليستمرّ فيهم البهاء إلى آخر العمر بالتاكيد على التزامهم لإنجيل المسيح. وللأسف غالبًا ما يكون الانكباب على الشكل أكثر من اللّب لينتهي الصيام بالعيد ويتفرق القوم كلّ إلى خاصّته. الهاجس الأكبر عند من يذوقون الحياة المسيحيّة ويلتزمون بها هو أن نتحرّك بالمسيح وليس بذواتنا، فمتى تتوحد بالمسيح تتوحد بأخيك لتؤلّف معه وحدة ليس فيها انصهار بل تقوم على تنوّع كبير باحترام التراثات واللغات كلّها، كما في العنصرة، إذ بدت صورة عن صليب الرب الممدود إلى الكون كلّه، وراح الجميع ينطقون بلغات عديدة. بما معناه أن السريان والعرب والأرمن لهم بيئاتهم ولكننا قادرون إذا خرجنا من الماضويات المتبعثرة أن نلتمس المسيح واحدًا فينا ونصير واحدًا فيه. فالمسيح واحد في كلّ التراثات والطقوس ضمن الدائرة المسيحيّة الغربيّة والشرقيّة، وهو في جمالها مبثوث ومتوثّب.
تؤكّد رسالة البابا فرنسيس ما يتوق إليه معظم المسيحيين أي الاتجاه نحو الوحدة بدءًا من الجزئيّات وصولاً إلى الكليّات. فمن قرأ الإعلان المشترك بينه وبين بطريرك موسكو كيريل فهم بالكلمات الواضحة والرامية برؤاها بأنّ العودة إلى الينابيع الأولى في الكنيسة الكاثوليكيّة قفزة نوعيّة هائلة ومميّزة بأدائها ودورها ووظيفتها في كسر النواحي الجامدة في العلاقة بين الكنائس وبين المسيحيين بصورة عامّة على المستوى المسكونيّ، وهي حتمًا تحتاج إلى المزيد من الدعم والتأييد والتشجيع. وفي معرض التوق البارز، ثمّة حدث كبير يتطلع إليه العالم المسيحيّ وينشدّ باتجاهه وتشتدّ انتظاراته وهو المجمع الأرثوذكسيّ العالميّ الذي سيعقد في جزيرة كريت اليونانيّة خلال حزيران المقبل وسيحضره البابا فرنسيس كضيف شرف. وينعقد هذا المجمع في ظلّ خلاف كبير بين بطريرك روسيا والبطريرك المسكونيّ وبطريرك أنطاكية وبطريرك أورشليم بسبب مسألة قطر وبلوغ العلاقة نحو قطع الشركة بين الكنسيتين، تبدو الأمور متشعبّة في هيكليّتها وطبيعة الخلافات ضمن العالم الأرثوذكسيّ الواحد. غير ان سؤالاً واضحًا يطرح في ظلّ تلك الخلافات أو العلاقة بين الأرثوذكس والكاثوليك، أين دور المسيح المخلّص وحركته في مجمل تلك المسائل؟
يبدو في هذه الاصطفافات الواضحة بأنّ معظم الاتجاهات لا تعنى في حقيقة المسيح المتجسد، بل تعنى في من هو السيد والمسود. الموجع في ذلك بأنّ المسيح غريب عن كنيسته وشعبه، حتّى في عيد فصحه غدا غريبًا عمن لا يقيمون العيد له بوحدة تقويم، فلماذا الاستغراب من تلاشي المسيحية في العالم كلّه بدءًا من الموقع الذي انطلقت منه؟ وعلى الرغم من ذلك ينتظر المسيحيون بصورة مباشرة أن يتفاعل إعلان هافانا في هذا اللقاء المجمعيّ الاستثنائيّ. الترجمة ليست بالإشادة بالإعلان المشترك وهو إعلان كونيّ بل وثيقة كونيّة راقية وحضاريّة ترتقي إلى أدب لاهوتيّ صاف بطبقات اجتماعية وثقافيّة وسياسيّة، بل بمناقشته بروحيّة إيجابيّة طيبة والتفاعل معه بخيارات تؤهل الكنائس الخروج من الماضويات العبثيّة القاتلة، ومن الأحقاد العرقيّة-المذهبيّة والانطلاق لرسم خريطة مسيحيّة تعيد أوروبا إلى وجه المسيح بعد غربة قاتلة وتبقي المشرق هنا كيانه ومداه حتى لا يتغرّب أصفياؤه في العالم ويصيروا نسيًا منسيًّا في ظلّ تطورات وجوديّة خطيرة للغاية تهدّد وجودهم بالكامل.
متى نلاقي المسيح فينا في فصح واحد؟ الشعب المسيحيّ على مختلف مذاهبه ينتظر أن تتخطّى الكنائس تلك المطبّات وتقفز فوقها إلى تقويم واحد. نداء المؤمنين وبخاصّة مؤمني المشرق في هذه المرحلة الدقيقة التي يمرّون بها والتي كانت قلب الإعلان المشترك للبابا فرنسيس والبطريرك كيريل حافز كبير لإعلان تقويم واحد للعيد. لقد اقترح بابا روما فرنسيس الأحد الثاني من نيسان نهارًا تقيم فيه الكنائس كلّها عيدًا واحدًا لقيامة المسيح ما الذي يمنع ذلك؟ هل يستجيب الأرثوذكس المجتمعون في كريت هذا النداء أو يقترحون توقيتًا آخر. ليس المهم التوقيت، الأهمّ أن نفرح معًا بالمسيح الظافر على الموت بعد آلام رهيبة كابدها وبلغت به نحو الصليب والموت وفي إيماننا بالصليب قد أتى الفرح لهذا العالم.
هذا الأسبوع عظيم بحسب التقويم الغربيّ، سيحتفل فيه الكاثوليك بآلام المسيح ليذوقوا بهاءه فوق الخشبة ومنتصرًا على الموت في اليوم الثالث أي يوم الأحد، وبعد شهر يلتحق الأرثوذكس في الذكرى عينها. وتبقى ملاقاة أرثوذكس فرن الشباك لإخوتهم الموارنة في الشعانين محطة رجاء اجتمع فيها الجميع بصلاة واحدة وتطواف واحد عسى نقبل معًا في الأعوام المقبلة إلى وحدة تقويم للفصح بوحدة القلوب المشتاقة لسكنى المسيح فيها إلى الأبد.