بقلم جورج عبيد -
تحاول بعض وسائل الإعلام الترويج بأن قرار إنسحاب الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين من سوريا جاء بناءً على خلافات جذريّة بينه وبين الرئيس السوريّ بشّار الأسد حول مسألة وقف إطلاق النار في سوريا وعدم استكمال المعركة للقضاء على الإرهاب من جذوره كما سرى الاتفاق منذ أيلول الماضي من سنة 2015. ويبني بعض المحللين قراءتهم على أطلال حقيقة منقوصة وتحتاج للمزيد من الدقّة في استنباط الرؤى واكتشافها وتمحيصها ومن ثمّ بناء العمارة التحليلية عليها في تظهير ما يحصل على الأرض السوريّة. لكن سها عن كثيرين بأنّ الروس في اللحظة التي قرروا فيها الدخول العسكريّ إلى سوريا كانوا قد وضعوا مهلة زمنية لتواجدهم في سوريا ما بين الستة أشهر والسنة، وانطلقوا بالجدول الزمنيّ هذا، من تلازم الميدان مع الحلّ السياسيّ وصولاً إلى حدود الاقتران وليس الافتراق. لم تبنَ الاستراتيجيّة الروسيّة على التحجّر في العمل الميداني والتجلّد في خطوطه وخيوطه، بل بنيت على توازن دقيق في آليّة التوفيق بين الحرب الجذوريّة على الإرهاب والتفاوض السياسيّ، ليس بين السلطة السوريّة والمعارضة، وهو أيّ الرئيس الروسيّ يعلم أن لا وجود لأيّة معارضة سياسيّة ناشطة في القتال أي من المدعووين للتفاوض في جنيف مع السلطة السياسيّة السوريّة، بقدر ما أن تنظيم داعش وجبهة النصرة هما الناشطان والمقاتلان على الأرض. وقد تساءل سيرغي لافروف في أيلول الفائت هل يسوغ التفاوض مع من يرفضون المشاركة السياسيّة ويقاتلون على الأرض بشراسة؟ وبصورة واضحة ليس التفاوض الفعليّ في جنيف بين سلطة تملك أوراق القوّة ومعارضة سياسيّة غير امنيّة أو عسكريّة أوراقها متلاشية ومبعثرة، التفاوض القعليّ في جنيف وحولها وخلفها بين السعوديّة وروسيا من جهة أولى، وبين السعوديّة وإيران من جهة ثانية، وبين سوريا والسعوديّة المعنيتين بالصراع من جهة ثالثة، وبرضى أميركيّ من جهة رابعة، وتتشعّب ساحات التفاوض من سوريا إلى اليمن مرورًا بلبنان أو انتهاءً به.
والرئيس فلاديمير بوتين المدرك لما يشكّله الإرهاب من خطورة على أمن روسيا وعلى أمن أوروبا، ليس غبيًّا أو ساذجًا للتخلّي المجانيّ والرضائيّ عن سوريا ورئيسها بهذه الصورة الصاعقة والفاقعة. لكنّ المسلّمة المعتمدة في استراتيجيّته أنّه لم يدخل سوريا لاستهلاكها وامتصاصها واختصار القرار السياسيّ سواءً بالتفاوض أو الحرب بذاته بالنيابة عن رئيسها وحكومتها وجيشها. يمعنى أنّه لم يدخل سوريا سوى لينجح في الحرب كما في التفاوض، ولن يكرّر تجربة الأميركيين في كابول أو بغداد بخلق نظام فوضى هدّامة وعبثيّة، فكما انسحب من أفغانستان انسحب من سوريا بصورة جزئيّة بعدما ساهم تدخلّه العسكريّ الجويّ والبحريّ بترسيخ بنية الدولة برئاسة بشار الأسد عسكريًّا وتفاوضيًّا، وقرّر في مدى الانسحاب الجزئيّ إعطاء فرصة للسعوديين المعنيين بالقتال في سوريا بالتحوّل إلى التفاوض، وهي بدأت به مع الحوثيين في اليمن، وكان هذا الأمر قبل ذلك مفقودًا، وقد انبلج بعد حرج كبير بفعل تراكم الخسائر الفادحة على الساحتين اليمنية والسوريّة. ومن شان ذلك أن ينعكس بصورة طيبة على زيارة الملك سلمان لموسكو الشهر القادم، وينعكس بالتالي على أجواء التفاوض في جنيف على مستوى وفد المعارضة السعوديّ من خلال فهم المعاني وإيجاد المخارج المناسبة لرسم خريطة حلّ سياسيّ في سوريا سواء بالانتخابات النيابية المقبلة أو على مستوى تشكيل حكومة وحدة وطنية.
لكنّ معاني الانسحاب تتجمّع في بقاء الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة والدولة على عكس ما طالب به وفد المعارضة السوريّ-السعوديّ.
فالنصر الميدانيّ المحقّق لا تنفصل عراه عن القرار المأخوذ بالانسحاب ولا على واقعية التفاوض. وعند بعض المراقبين بدقّة فإنّ وقف إطلاق النار بني على النصر وليس على الفشل، وفي الوقت عينه فإنّ قرار الانسحاب من سوريا ترك مفاعيل النصر منعكسة على جدول أعمال التفاوض وفقًا للورقة التي قدّمها السفير بشار الجعفريّ لاستيفان دوميستورا لمناقشتها مع وفد المعارضة السعوديّ. وفي المحصّلة إنّ لحظة الانسحاب لم تدخل مدى الكمال، فهو في طبيعته جزئيّ، مع استبقاء حوالي 70% من الطائرات الروسيّة في قاعدة طرطوس البحريّة أو في مطار حميميم. وبمجرّد بقاء تلك النسبة المذكورة من الطائرات في القاعدتين العسكريّة فإنّما دلّ ذلك على أنّ الحرب على الإرهاب لن تتوقّف، ولكنّها تحوّلت من الميدان إلى الطاولة بدءًا من الواسطة وصولاً إلى التفاوض المباشر. وقد قال أحد الديلوماسيين في قراءته لمعنى التفاوض بالمقارنة مع ايّ حرب وقعت، "بأنّ التفاوض حرب، ولكنّها حرب انتقلت من الأرض إلى الطاولة، فإمّا أن تتحقّق الأهداف بانتزاعها وفقًا للتمييز بين مواقع القوة والضعف عند الأطراف المتفاوضة، أو تتلاشى معظم الأوراق فتتكون رؤية جديدة بقبول كلّ طرف للآخر كحاجة ماسة للتوافق على أسس سياسيّة جديدة، أو بحال الفشل فإنّ العودة إلى الميدان تصبح أكيدة لحسم الموقف على الأرض بالنار".
ومن الطبيعيّ، وفي ظلّ ها القرار، أن تتصاعد مواقف الأطراف الأخرى كمثل موقف محمد علّوش السعوديّ التوجّه والعثمانيّ الهوى، القائل بعزل الرئيس بشار الأسد أو قتله، وصولاً إلى موقف وزير الخارجية السعوديّ عادل الجبير بتصريحه بانّه لا توجد صفقة مع السعوديين، وقد أمل بانتقال السلطة السياسيّة إلى حقبة ما بعد بشار الأسد. وهذا يعني بتفسير واضح بأنّ التفاوض والضغط سيدور نحو هذا الهدف حتّى يسهل تحقيقه. غير انّ أوساطًا دبلوماسيّة مراقبة لفحوى تلك التصريحات اعتقدت وببساطة بانّ هذا الخطاب مجرّد توق وليس له أن يتحوّل حقيقة بسبب ضيق الآفاق أمام هذا الطرف عينًا. وترى بأنّ التسلل من نافذة القرار المأخوذ غير وارد وقد أخذ بإحكام شديد بالتوافق التّام والتنسيق الشخصيّ والمباشر بين الرئيسين بوتين والأسد، وقد أثبت الرئيس الأسد قوّة وجدارة ومنعة في المواجهة الميدانية تصاحبه وحدة الشعب السوريّ بمعظم مكوناته وبخاصّة في مواجهته للقوى التكفيرية النافية والمكفّرة لكلّ آخر والباقرة للبطون والقاطعة للرؤوس والمدمرة للحضارة. ويشي هذا القرار بأنّ الأسد كما قاد المواجهة العسكريّة فإنه سيقود عملية التفاوض، في ظلّ النظرة الروسيّة المتوازنة لمعظم الأطراف المتحاورة بعيدًا عن ممارسة أيّ ضغط أو دعم، إنما في ظلّ تشجيع واضح على عملية سلمية يقودها الرئيس بشار الأسد بنفسه وعن طريق التفاوض. ويعتقد المراقبون بأنّ كلّ ذلك تمّ ويتمّ بتوافق أميركيّ-روسيّ أدّى إلى تشكيل وعاء تقف عليه معظم القوى ولكن ضمن مسلّمة واضحة لا حياد عنها وهي لا انتقال للحكم قبل القضاء على القوى التكفيريّة سواء عن طريق التفاوض والوصول إلى قناعة واضحة عند السعوديين والأتراك برفع الغطاء عن القوى الإرهابيّة، وبقاء الرئيس الأسد حتى آخر عهده مع حكومة يشارك فيها الجميع، أو أنّ الميدان سيبقى سيد الموقف وموسكو غير بعيدة عن دمشق.
هل النتائج المرتقبة خلف التفاوض مضمونة؟ ماذا عن موقف إيران وحزب الله، ماذا عن تركيا المعنية بصورة مباشرة في القتال؟ وماذا أيضًا عن إسرائيل المتفاجئة بدورها بهذا القرار؟
يقول دبلوماسيّ محنّك في ظلّ تلك الظروف الملبّدة ما من شيء مضمون على الإطلاق. ذلك أنّ العناوين كلّها متشابكة ببعضها البعض من أوكرانيا إلى سوريا، سواءً بين الأميركيين والروس، أو بين الأطراف المتصارعة على أرض سوريا. وأكمل قائلاً، لكنّ التوافق الأميركيّ الروسيّ يضمن استمرار السلطة في سوريا سواء في التفاوض بأهدافه المعلنة وغير المعلنة، بنجاحه على كتابة مرحلة سياسيّة لسوريا، أو عبر العودة للميدان بالتأكيد على أنّ الحلّ الميداني يبقى الأفضل والأفعل للبلوغ نحو الحلّ السياسيّ. هذا عينًا هو معنى التلازم بين التفاوض والميدان. لكنّ قرار الانسحاب بحدّ ذاته وبحسب هذا الدبلوماسيّ خلط الأوراق باتجاه تباين إيرانيّ-روسيّ، بعد استقبال الإيرانيين لرجب طيب اردوغان، ومن المعروف بأنّ العلاقة بين تركيا وروسيا على أسوا أوضاعها، ويبدو بانّ الأتراك يتلاقون مع الإيرانيين برفض دولة كردية في سوريا. ويخشى هذا الدبلوماسي في قراءته من أنّ القرار السابق لاستقبال روسيا الشهر المقبل للملك سلمان جاء كردّة فعل على اللقاء الإيرانيّ-التركيّ الأخير، وقد يتأتّى منه تعزيز الإخوان المسلمين في الداخل السوريّ كحالة إسلامية بديلة عن القوى التكفيريّة تحتاجها إيران وتركيا في حساباتهما على مستوى سوريا والمنطقة، وفي المواجهة السعوديّة-الإيرانيّة.
لكنّ دبلوماسيًّا قريبًا من الإيرانيين نفى إمكانية وجود تباين كهذا. وقد اعتبر بأنّ الإيرانيين كالروس لا يتوقون لحكم سوريا، بل هم ساهموا مساهمة فعالة بالحفاظ على سوريا الدولة والكيان. وبعيدًا عن كلّ التأويلات الممكنة، فإن إيران تتمتّع باتفاقية مع الدول الخمسة زائد واحد، وهي دولة إقليمية كبرى مؤثّرة في واقع المنطقة وتفاصيلها، ووجودها رسّخ توازنًا كبيرًا مع إسرائيل، وتتمتّع بعلاقة استراتيجيّة مع الرئيس بشار الأسد في سوريا، وهي علاقة عميقة الجذور، وإذا وجد بعض تباين فإنّه آيل للحل بين روسيا وإيران لكون روسيا تحتاج لها والعكس أيضًا لإضفاء المزيد من التوازن في التعاون وضمان التفاعل بين الإسلام القرآنيّ والمسيحيّة المشرقيّة في معظم بلدان المشرق العربيّ وتلك حاجة استراتيجيّة لكلا البلدين في مواجهة التكفير والتطرّف، كما تتمنّى الوصول إلى حوار مع السعوديين، وليس الإيرانيين بعيدون عن الحوار الحوثيّ-السعوديّ، فهي تعوّل عليه للانطلاق نحو خطاب مستقبليّ مباشر يضمن الهدوء ويدرأ من أخطار القوى التكفيريّة نفسها.
وفي الختام يعرب هذا الدبلوماسيّ بانّ ورقة الإخوان المسلمين ليست حاجة إيرانيّة في سوريا ومصر والوقائع اثبتت ذلك، بل حركة حماس كانت جزءًا من تلك الحالة وإيران تتمتّع بعلاقة دعم لكلّ نضالها بوجه إسرائيل. فلتطمئنّ النفوس والعقول، الانسحاب الروسيّ الجزئيّ، مؤشّر لبداءة حلّ سياسيّ لن يكون إلاّ بوجود الأسد في موقع القيادة وتسوية تاريخيّة، تعمّ المنطقة كلّها. فلننتظر ونرَ.