العميد د. امين محمد حطيط -
كما شغل العالم منذ 6 اشهر يوم اعلن بوتين تلبية الطلب السوري بتقديم مساعدة عسكرية عملانية في سورية فقد كانت دهشته و انشغاله اكبر بالقرار الذي اتخذه بوتين أيضا بالتنسيق مع الرئيس الأسد و المتضمن تقليصا للوجود العسكري الروسي في سورية ، قرار اختلفت التفسيرات حوله حتى التناقض بين من رأى في القرار رسالة سلبية لسورية للضغط عليها من اجل التنازل في العملية السياسية و بين من رأى فيه عكس ذلك دعما للعملية السياسية دون التفريط بالورقة العسكرية او الاضرار بالقدرات العسكرية المستعملة في الميدان السوري ، فاين هي الحقيقة هنا ، ثم ما هي مفاعيل القرار و تداعياته على المسارين العسكري والسياسي في سورية ؟
لا شك بان للقرار الروسي أهمية استثنائية في ظرفه وفي انعكاسه على المشهد السوري، لكن وحتى يفهم الامر جيدا علينا ان نعود فيه الى أصل الموضوع ومنتهياته حيث ان الوجود العسكري الروسي العملاني كان بناء لطلب سوري وكانت الاستجابة يومها محددة في المهلة والمهمة. والكل يذكر بان المسؤول الروسي حدد المهلة في الساعات الأولى من الدخول العملاني الى سورية حددها ب 4 أشهر ثم رفعها الى 6 أشهر وربطها أخيرا بإنجاز المهمة، وامتنع بعد ذلك عن التداول بمهلة معينة عملا بمبدأ المفاجأة العملانية والاستراتيجية معا.
و اليوم نجد ان المهلة انصرمت ، و المهمة التي حددت نفذت بجوهرها فتمت استعادة مساحات واسعة من يد المسلحين و باتت يد الجيش العربي السوري في الميدان مع حلفائه هي العليا و جردت المجموعات الإرهابية و المسلحة من معظم قدراتها الهجومية ، و اقتنعت قيادة العدوان على السورية بان اسقاطها مستحيل ، و مع تطبيق وقف العمليات القتالية و خفض مستوى الشدة في المواجهة في الميدان بنسبة تتراوح بين 35 الى 50 % فقد تراجعت الحاجة الى المساعدة بالحجم التي هي عليه الان ، و بات تخفيض المساعدة غير مضر بالميدان و غير مؤثر على فرص الجيش العربي السوري لمتابعة العمل في مواجهة الإرهابيين الذين لم يشملهم وقف العمليات خاصة و ان الطيران السوري في الفترة الاخيرة تلقى المساعدات التي جعلت قيادته تؤهله بالشكل الملائم للعمليات الجارية .
ومن جهة أخرى يجب ان لا ننسى بان القرار الروسي هو قرار تقليص الوجود او خفض مستوى المشاركة العسكرية الروسية في الميدان السوري وليس قرار انسحاب من سورية. وهنا لا بد من الإضاءة على طبيعة الوجود العسكري وعناوينه الثلاثة التي يتعلق الأول منها بالشأن العملاني بشقيه الاسناد المباشر للقوات في المعركة، والعمليات العسكرية والتدميرية ضد الجماعات الإرهابية وبنيتها التحتية وخطوط امدادها ومنظومات القيادة والسيطرة لديها، اما الثاني فيتعلق بمسألة الدفاع الجوي وحماية الأجواء السورية من أي تدخل أجنبي تستفيد منه المجموعات الإرهابية، ويبقى الثالث وهو المتعلق بالدعم والاسناد اللوجستي للجيش العربي السوري. ومع هذا التقسيم فان من المهم التأكيد على ان التخفيض طال العنوان الأول في شقه المتصل بالإسناد الجوي للقوات البرية وهو الشأن الذي بات الطيران السوري قادرا على ملء الفراغ فيه وبكفاءة عالية، اما محاربة الإرهاب والدفاع عن الأجواء السورية او الدعم اللوجستي فان الخفض لم يؤثر عليها ولهذا كان التأكيد الروسي الحاسم على إبقاء منظومة الدفاع الجوي س 400 مع قاذفات جوية كافية لتنفيذ المهمة فضلا عن بقاء قاعدة حميميم وطرطوس رؤوس جسور اللوجستية الروسية الى سورية.
هذا عسكريا ، اما سياسيا و استراتيجيا فان للقرار وقع ومفاعيل هامة يمكن التوقف عندها بدءا بالشأن السياسي ، حيث نجد فيه ان روسيا التي باتت احد راعيين اثنين لعملية سياسية تهدف الى وقف الحرب في سورية ، و هي الرعاية التي قادت الى انتاج القرار 2254 الذي تضمن وقف العمليات القتالية و اطلاق الحوار السوري - السوري برعاية دولية ، ان روسية وهي في هذا الموقع الرعائي للعملية السياسية لا يمكنها ان تكون طرفا فاعلا في الميدان و شريكا في القتال و ان تكون في الوقت نفسه راعيا للحل السياسي ، فبديهي هنا و من اجل سلامة المنطق و الصلح مع الذات ان تنكفئ من الميدان المباشر و لا تبقى الا في النطاق الذي لا يؤاخذها عليه احد او لا ينفر منها أحد من المشاركين في العملية السياسية ، لتكسب مرونة لإنجاح المفاوضات ، مع رفع منسوب ثقة المعارضة بها و في هذا ستكون بالنسبة لأطراف الحوار السوري في موقع افضل من اميركا التي تملي على المعارضين و لا تحوز ثقة الحكومة السورية بينما نجد روسيا على العكس تنسق و تتفاهم مع سورية و توحي بالثقة للمعارضين و هذا في مصلحة العملية السياسية .
بالإضافة الى ذلك تجد روسيا ان من مصلحتها و مصلحة الحكومة السورية من الوجهة السياسية و المعنوية ان تنكفئ قليلا في الميدان في فترة زاخرة بالاستحقاقات و المواقف حتى لا تكون شريكا في المسؤولية عن قرارات سورية سيادية حيث تتمسك الحكومة السورية بثوابت لا تراجع عنها ، تمسك قد يترجمها البعض بانها عرقلة للمسيرة السياسية .و من الأمثلة على هذا تبرز المواقف السورية بشأن اجراء الانتخابات النيابية و التمسك بالدستور القائم و العمل به حتى يعدل بقرار من الشعب السوري ، فضلا عن الخيارات الاستراتيجية الأساسية للدولة ووحدتها و شكل الحكم فيه وسيادتها و قرارها المستقل. فروسيا تساعد الحكومة السورية ولا تحل محلها او محل الشعب السوري وعلاقة روسيا بسورية علاقة صداقة ومصالح قائمة على الاحترام المتبادل بخلاف علاقة اميركا بمن يسمون حلفاءها في المنطقة والتي هي علاقة تابع ومتبوع يملي عليه سيده في كل شيء بدءا من تعين الحاكم ونزولا.
بالإضافة الى ذلك لا بدمن الإشارة الى ان القرار لا يمكن ان يمس العلاقة الاستراتيجية السورية الروسية باي شكل من الاشكال لان هذه العلاقة ضرورية وهامة للطرفين ، فروسيا التي تعرف ان البوابة السورية هي التي اعادتها الى المسرح الدولي لترسي توازنا دوليا فقد منذ العام 1989 ، ما جعلها قطبا رئيسيا لا يمكن ان يتجاوز في القرار الدولي ، تعلم جيدا ان التفريط بالورقة السورية انما هو تفريط بالمصلحة الروسية ذاتها و على وجهين الوجه السياسي العام المتصل بدورها الدولي و الوجه الأمني و ما فيه من تفريط باستقرارها وامنها القومي و هو امر لطالما قلنا فيه ان الدفاع عن موسكو بوجه الإرهاب انما يبدأ في الدفاع عن دمشق و لنذكر بقول كاترين احدى قياصرة روسيا عندما كانت تصر على أهمية اتصال روسيا بالمياه الدافئة فتقول ان "مفتاح موسكو موجود في دمشق" . وعلى هذا الأساس نرى انه في أي لحظة ترى فيها روسيا حاجة لرفع مستوى الوجود العسكري في سورية من اجل حفظ المكتسبات وحماية المصالح فأنها لن تتردد ابدا في فعله والمسافة بين موسكو ودمشق جوا لا تتطلب أكثر من 5 ساعات فقط.
على هذا الأساس نجد بان القرار الروسي بتقليص الوجود العسكري في سورية ليس من شأنه احداث تغيير في موازين القوى العسكرية بشكل يؤذي سورية او يؤثر على المكتسبات الي تحققت مؤخرا ،لكنه يؤمن مصالح سياسية روسية هامة لجهة التنصل من المسؤولية عن القرارات السيادية التي تتخذها سورية التي تربطها بها علاقة صداقة يحكمها التشاور و التنسيق بعيدا عن علاقة التبعية التي يحكمها منطق السيطرة و الامرة ، كما يخرج روسيا من دائرة الاتهامات الظالمة التي كانت تساق ضدها لجهة القول "بالاحتلال الروسي لسورية" فضلا عن كونه يعطي روسيا مرونة كبيرة في التعامل مع العملية السياسية .
لقد اتخذت روسيا قرارها المنسق مع القيادة السورية و هي على ثقة تامة بان سورية التي صمدت مع حلفائها في محور المقاومة طيلة خمس سنوات و اجهضت العدوان عليها ،هي الان في ظروف و تملك من القدرات ما يمكنها من انجاز ما تبقى من مهمة الدفاع ، خاصة و ان من خطط للحرب على سورية بات مقتنعا بان نجاحه في عدوانه بات مستحيلا و اتجه الى الإقرار بوجوب وقف الحرب ، كما قال كيري مؤخرا "ان الأوان لوقف الحرب في اليمن و سورية " ، في موقف اطلقه ليتكامل مع مواقف أخرى ترسم مشهدا ينبئ باننا اليوم على عتبة مرحلة الحل ،و هنا الرسالة الأساسية التي ارادت ان ترسلها روسيا بقرار تخفيض قواتها لتقول لكل من يعنيه الامر" ان الحرب في سورية انتهت " و لم يعد الامر يتطلب اكثر من تعهد و صيانة المكتسبات و تراكم المزيد منها وفقا للمتاح ، عمل تملك القوات العربية السورية و الحلفاء في محور المقاومة مؤهلات كافية و قدرات موثوقة لإنجازه ، وهي رسالة تجاوزت ما اعلنه كبير محققي الأمم المتحدة في جنيف عندما قال " للمرة الأولى منذ 5 سنوات بات الامل كبيرا بانتهاء الحرب في سورية".