عبد الباري عطوان / راي اليوم -
كانت لدينا شكوك تخامرنا، ومنذ التدخل العسكري الروسي، والصمت الاميركي تجاهه وغاراته، ان هناك تفاهما سريا بين القوتين العظميين، الاميركية والروسية، حول “تسوية ما” للازمة السورية، جرى التوصل اليها اثناء اللقاءات المكثفة بين وزيري خارجية البلدين جون كيري وسيرغي لافروف، ولكن كل محاولاتنا وابحاثنا للتوصل الى طبيعة هذه التسوية وتفاصيلها باءت بالفشل، في ظل حالة التكتم السائدة والمحكمة طوال الاشهر الستة الماضية.
المسؤولون الروس فاجأونا اخيرا في البدء للتمهيد لهذه التسوية والخريطة النهائية الاولية للوضع السياسي والديمغرافي المتفق عليها، وتجلى ذلك بوضوح من خلال التصريح الذي ادلى به سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي ظهر (الاثنين)، قال فيه بالحرف “نأمل ان يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية الى فكرة انشاء جمهورية فيدرالية”، واضاف في مؤتمر صحافي “استبعد تطور الاحداث في سوريا وفق سيناريو كوسوفو، ولا بد من وضع معايير محددة للهيكلية السياسية في سوريا في المستقبل تعتمد على الحفاظ على وحدة اراضي البلاد بما في ذلك انشاء جهورية فيدرالية خلال المفاوضات”.
هذا كلام ينطوي على درجة كبيرة من الخطورة، سواء من حيث توقيته، اي بعد يومين من سريان وقف اطلاق النار، او من اهمية الرجل الذي صدر عن لسانه، اي نائب وزير الخارجية الروسي لافروف.
ما يمكن استنتاجه من هذه التصريحات ان نائب الوزير الروسي يستبعد “بلقنة” سوريا وتفكيكها، على طريقة ما حدث في يوغسلافيا بعد انهيار الحكم الاشتراكي فيها بوفاة جوزيف تويتو مؤسسها وموحدها، ويطرح التقسيم الطائفي العراقي كنموذج، ولا نقول السويسري، لان النموذج العراقي هو الاقرب.
جو بايدن نائب الرئيس الاميركي، كان اول من تحدث عن قيام اتحاد فيدرالي عراقي حتى قبل ان تحتله بلاده، وتولى الرئيس الاميركي جورج بوش وحاكمه العسكري في البلاد بول بريمر تنفيذ هذا المخطط لاحقا، عندما قسم العراق طائفيا وعرقيا الى ثلاثة كيانات، واحد كردي في الشمال، وثاني شيعي في الوسط والجنوب، وثالث سني في الغرب، وبالتحديد في الانبار ونينوى.
سوريا “الفيدرالية” ربما تقسم وفق النموذج العراقي، اي مجموعة من الكانتونات الطائفية السنية والعلوية الدرزية والكردية، وقد يزيد عددها عن خمسة مثلما قال نائب رئيس الوزراء التركي، وهذا ما يفسر القلق التركي، والجهود المنصبة حاليا لتصفية “داعش” في الشرق لاقامة كيان سني مكانها في الرقة ودير الزور والحسكة، وتعزيز النزعة الاستقلالية للاكراد في الشمال السوري، بحيث يتم اقامة شريط على طول الحدود السورية الشمالية المحاذية لتركيا، وربما تكون حلب “امارة” سنية موازية لنظيرتها في الشرق، واخرى في درعا جنوبا، ورابعة درزية في جبل العرب، وخامسة او سادسة علوية في الساحل.
فمعظم، ان لم يكن، جميع الصراعات العرقية والطائفية والعقائدية التي اندلعت في العالم، وتدخلت فيها الدولتين العظميين، اي روسيا واميركا، انتهت بحل سياسي يعتمد التقسيم، وهذا ما حدث في كوريا وفيتنام والسودان وجورجيا ويوغسلافيا، وحاليا في اوكرانيا، وسوريا لن تكون استثناءا، مع اعترافنا ببعض الفوارق هنا وهناك.
جون كيري وزير الخارجية الاميركي كان اول من فجر قنبلة التقسيم لسوريا، عندما قال في شهادته امام الكونغرس قبل بضعة ايام “ربما فات الاوان لابقاء سوريا موحدة”، واكد ان هناك “خطة ب” يمكن اللجوء اليها في حال فشل الحل السياسي، وانهارت صيغة المرحلة الانتقالية.
ولا نستبعد مطلقا “السيناريو” الذي يجري الترويج له حاليا بدخول قوات برية سعودية من الاردن باتجاه الشمال لاجتثاث “داعش” في الرقة ودير الزور والحسكة، مما يوحي ان السعودية ربما تكون ليس على اطلاع على هذا السيناريو فقط، وانما تلعب دورا رئيسيا في تطبيقه باشتراك دول عربية اخرى، وما مناورات “رعد الشمال” الا مقدمة في هذا الصدد.
التصريحات الصادمة التي ادلى بها فيتالي تشوركين مندوب روسيا في الامم المتحدة، وانتقد فيها بعض مواقف الرئيس السوري بشار الاسد، وطالبه فيها بضرورة الاستماع لنصائح بلاده، وكذلك تلك التي وردت على لسان ديمتري بيسكوف الناطق الصحافي باسم الرئيس الروسي، واكد فيها “ان هناك وجهات نظر متشابهة وليس متطابقة تماما لكل من روسيا وسوريا، ولا شك ان هناك خلافات”، كلها تدفعنا للمزيد من الشكوك في وجود “طبخة ما” روسية اميركية، ربما سيتم فرضها على الرئيس السوري وحكومته والمعارضة المسلحة في الاشهر المقبلة، وبعد التخلص من الجماعات الجهادية المتشددة التي تقف عقبة في طريق هذه الطبخة ولو مرحليا.
لا نعرف كيف سيكون موقف الرئيس الاسد من هذه “السيناريوهات” التي تطبخ في غرف مغلقة، وتركز على تقسيم بلاده تحت ذريعة “الفيدرالية”، ولكن كل ما نعرفه ان قراره المفاجيء بالدعوة الى انتخابات برلمانية في نيسان (ابريل) المقبل قد تكون رفضا مبطنا لها، خاصة اذا اخذنا في الاعتبار الرد الروسي السريع المعارض لها، ولكن هل يستطيع تحدي حليفه الروسي؟
تقسيم سوريا، بعد العراق، على اسس عرقية وطائفية يعني التفتيت وتغيير خريطة المنطقة بما يخدم "اسرائيل"، من حيث جعلها القوة الوحيدة المتفوقة، في وسط عربي واسلامي ضعيف، ومفكك، وغارق في حروب اهلية طائفية، ولنا في العراق انصع الامثلة.
هذه الطبخة الاميركية الروسية التفتيتية تحت اسم الفيدرالية التي رائحتها تتسلل الى خياشيمنا تدريجيا يجب ان تقاوم بكل الطرق والوسائل لمنع تطبيقها لانها قد تنهي الحرب الحالية في سوريا بصورتها الحالية، ولكنها ستؤسس لحروب طائفية مستقبلية ربما تكون اكثر شراسة.
نخشى ان تكون سوريا باتت ضحية لعبة امم خطرة تنفذ بايد واموال واسلحة عربية وتحت مظلة روسية اميركية، ومن يقول غير ذلك عليه ان يطرح حجته، ونأمل ان نكون مخطئين.