د. طراد حمادة -
تبدو تركيا الخاسر الأكبر في الحرب الدائرة في سوريا وعلى سوريا، كيف تجمعت هذه الحقيقة من محصلة سنوات الحرب شبه الكونية في بلاد الشام؟ وأين ذهبت الادعاءات التركية بأنها قادرة على تغيير النظام السياسي في سوريا إلى مجموعة من الأقطار العربية المستقلة، تدور في حلقة النفوذ التركي الإقليمي، فيما يشبه عودة الولايات العربية إلى أحضان الخلافة العثمانية؟ وما يعنيه هذا الانقلاب من تغيير في خارطة الشرق الأوسط العربي، ومن تعديل في ميزان القوى الدولي والإقليمي المستقر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
تركيا الخاسر الأكبر في الحرب الدائرة في سوريا وعلى سوريا، محصلة استراتيجيّة كانت منذ وقت قصير مسألة لا تصدق، إذ كيف يمكن لدولة ذات تاريخ من القوة حمل مؤرخًّا بريطانيًّا للقول، ذات يوم، أن الدولة العثمانية هي الوحيدة القادرة على أن تضع حدوداً لنفسها، وأنه ما من قوة قادرة على إيقاف توسعها حيث تشاء، يتبعها العالم الإسلامي بالبيعة والولاء، بالقوة والرضى، بالتسليم وانتظار اللحظة المناسبة للانقلاب عليها.
اردوغان
كان محمد علي الكبير، وأولاده من بعده، القوة الإقليمية التي استطاعت، ذات يوم أيضاً، قرع أبواب الأستانة، لولا أن تجمعت القوى الأوروبية لتحول دون سقوط الخلافة العثمانية، وتفرض على الجيش المصري المزود بأقوى أسطول حربي حديث في مواصفات المرحلة، والتراجع عن أبواب الأستانة والاكتفاء، بحكم مصر، رضوخاً لمنطق تحالف القوة بين السلطة العثمانية والبلدان الأوروبية.
لكن تركيا العصر الراهن، يحكمها حزب إسلامي، له امتداداته العربية المعروفة، وتربطه علاقات تحالف مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، وهو عضو فعّال في الحلف الأطلسي "الناتو" بل لعله القوة العسكرية البرية الأساسية لجيوش هذا الحلف، كما أنه يطمح أن يكون عضواً في السوق الأوروبية المشتركة، إضافة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وأن يكون رابطة التواصل بين الشرق والغرب، كما هي اسطنبول نجمة مضيئة، تجمع آسيا إلى أوروبا، في نقطة لقاء فوق سطح المياه.. على المضيق الذي يضع قدميه في أوروبا، ويحتضن بذراعيه أرض آسيا الشاسعة...
هذه هي تركيا اليوم وقد وجدت في الحرب السورية مناسبة، لتعيش حلمها التاريخي واقعاً يجد مصداقه في إعادة بناء الإمبراطورية، مرتكزة إلى إسلا – علماني ينظم نفسه في دولة حديثة وبنى اقتصادية حديثة هي أيضاً، لكن أحلام السيطرة ومدّ النفوذ إلى دول الجوار الإسلامية، تقوم على فرض النظام العام بالقوة العسكرية واستغلال حالة الحرب، سواء كانت هذه الحرب إقليمية بين دول متناحرة، أو أهلية بين مجموعات متنافرة، أو حرب الإرهاب الأعمى الذي يخبط خبط عشواء، ويرفع زوراً وبهتاناً راية الإسلام، ويجد في الدعم التركي متسعاً له وملاذاً، في المواقف الصعبة.
إن القول أن تركيا هي الخاسر الأكبر من الحرب في سوريا وعلى سوريا، يستند إلى المشاكل التالية:
1) تشترك سوريا وتركيا بحدود واسعة تمتد مسافات طويلة، تسكن على جانبيها جماعات تشترك فيما بينها بالدين والعرق واللغة وكذلك المصالح المشتركة، وفيها يجري كل من النهرين الكبيرين نهر الفرات ونهر العاصي، وعلى ضفاف كل منهما نشأت مدن وحواضر كانت وإمارات وممالك شكلت جزءاً أساسياً من تاريخ كلا البلدين. وقبل نشوب الحرب، ونتيجة لعلاقات مميزة وضع نبتتها الرئيس السوري حافظ الأسد، واستمرت الإدارة السورية في الحفاظ عليها، كانت الحدود بين البلدين مفتوحة لعبور الأشخاص والبضائع، وتبادل الخبرات والتجارب، وتوزع التجارة والمصالح. هذا ما كانت عليه الأوضاع على امتداد الحدود المشتركة بين سوريا وتركيا.
2) أسرعت تركيا قبل غيرها إلى إعلان تأييدها للمعارضة السورية في إرهاصات حركتها الاحتجاجية الأولى، ثم طرحت القيادة التركية شعار إسقاط النظام في سوريا وجمعت من أجل ذلك العتاد والعتيد في إذكاء نار الحرب وشن حربٍ دبلوماسية وإعلامية مرافقة لها، حتى ظهر للعالم أن الحرب على سوريا إنما تقاد من الأراضي التركية المجاورة وأن الحكومة التركية تشارك في هذه الحرب مشاركة أساس وتقود حركتها العسكرية والسياسية والأمنية والدبلوماسية...
3) راهنت تركيا على سقوط النظام السوري وجرفت معها مجموع الدول في الحلف ضدّ الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه السياسي، وجعلت من أبرز أولوياتها السياسية هذا الهدف.
4) وحين فشل المشروع التركي في إسقاط النظام السوري، دفع الحرب إلى الواجهة عاملان أساسيان يمثلان ضربة قوية لطموحات تركيا السياسية:
أ- العامل الأول بروز القوى الكردية في ميادين الحرب على تخوم الحدود مع تركيا، وهذا الأمر له ما له في الحسابات التركية الداخلية ومسلسل حربها مع الأكراد.
ب- تطورات الحرب وما جلبته من الدخول الروسي المباشر فيها وما يمثله من قلق مباشر لتركيا على المستوى الاستراتيجي ويستطيع كل ناظر في العلاقة التاريخية بين كل من روسيا وتركيا أن يقدر مستوى هذه الضربة القوية للاستراتيجية التركية..
تقود هذه المسائل للقول أن تركيا تظهر حتى الآن الخاسر الأكبر من تطورات الحرب على سوريا، فيما حصص الآخرين من الخسارة يمكن أن نستبينها في قراءات لاحقة...