بقلم جورج عبيد-
عشية ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، تتراكم الرؤى وتزدحم في ذروة اللحظات الراهنة شدّة وحدّة، وتتجلى فيها انتظارات اللبنانيين، في بلورة حلّ جذريّ يفترض أن تشترك مكوناتهم وأطيافهم في نسجه ونحته، وقد أظهرت التجارب المرّة بأنّ ليس من حلّ آحاديّ الجانب ومعظم الحلول الآحادية المستولِدة والمستهلِكة لكلّ الآخرين تسقط تلقائيًّا بفعل التحوّلات الجذرية التي أباحت سقوطها.
من نوافل الأمور أن تعترف الأطراف اللبنانيّة بأن اعتيال الشهيد رفيق الحريري، ما كان زلزالاً لبنانيًّا أي محصورًا في النطاق اللبنانيّ سواءً كان ضيّقًا أو واسعًا، بل كان زلزالاً عربيًّا وإقليميًّا أدى مؤدّاه في أخذ الشرق الأوسط برمته إلى نظرية كوندوليزا رايس الفوضى الهدّامة، وقد راهنت رايس مغ فريق عملها ومعظمهم من المسيحيين الجدد New Christians، وهم من نظّروا ومهدوا لاجتياح العراق، على تلك النظرية للوصول إلى شرق أوسط جديد، ضمن خريطة جديدة تطيح بالتوازن وتقوده إلى بلقنة جديدة. إنّ لحظة الاعتيال غير قابلة للتشريح الجزئيّ بل للتشريح الكليّ للدخول في تفسير المحتوى الكبير وتوضيحه بأهدافه وتوصيفه بمعاييره. ذلك أنّ ما يعيشه العالم العربيّ، وبخاصّة الإقليم الملتهب متدحرج من جوف المحتوى، أي أن المحتوى الناريّ المتأجج يتدفق بحممه دون هوادة ما بين سوريا ولبنان والعراق وصولاً إلى الخليج، ويتدحرج داخل كل نظام وإقليم من خلفيّة الصدام المذهبيّ المصطنع بين الشيعة والسنّة، مفرزًا تيارات سلفيّة تحاول التسلل خلف كل اعتدال وازن ومحترم للقبض على الأنظمة بخلفية لا تمت إلى الإسلام بصلة بل هي خلفية متصهينة للغاية تشعّبت مليًّا من ذاتية منغرسة في الإدارة الأميركيّة خلال عهد الرئيس السابق جورج بوش في رهانات قاتلة، وهي الآن تتهاوى مع نهاية عصر الآحاديات والاتجاه نحو ثنائيًّات تقودها موسكو لعالم جديد متوازن.
ليس سهلاً تجاوز الذكرى. فنحن كلبنانيين لا نزال في قلب تداعياتها السياسيّة والأمنيّة، وتشي الأحداث السوريّة منذ نشوئها في سنة 2011 بأنّ بعضًا يسيرًا منها متفجر من قلب التداعيات عينها وهي التي أدخلتنا ما بين لبنان وسوريا في متاهات صعبة وقاتلة على كافّة الأصعدة، من زاويتين مذهبية وبنيويّة، لندخل في برهة طويلة من الزمن في إطار عرقنة ترادفت بمعانيها ومدلولاتها مع مصطلح البلقنة فتحطمت، وبحدود واسعة، معظم المكونات في صراع تراجيديّ صحراويّ وبدويّ، ذهب أبعد ممّا كان قد أسماه أمين معلوف عنوانًا لكتاب له صدر في باريس "هويات قاتلة"، فبلغنا إلى عنوان جديد صبغ المنطقة بثقلها وبعد اغتيال الرئيس الحريري، بعنوان واحد رديف لعنوان كتاب أمين معلوف، وهو "مذاهب قاتلة".
من قتل رفيق الحريري قصد إدخالنا في تلك اللجج، ومن المعروف أن الرجل كان على موعد مع أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله للاتفاق على مشروع سياسيّ واضح المعالم يحفظ الكيان اللبنانيّ ويحافظ على المقاومة، بعد قراءته لتداعيات الأحداث في العراق، وإمكانية تدحرجها نحو لبنان، وهو منذ سنة 1996 كان ضنينًا على المقاومة ودورها في قتال إسرائيل. ويذكر عمران ادهم صاحب كتاب "النفاق الأميركيّ"، أنّ أرييل شارون رئيس الحكومة الإسرائيليّ آنذاك، هو من طلب من الأميركيين اغتيال رفيق الحريري، بحجّة أنّه خطير على أمن إسرائيل كشخصيّة مالية ذات أبعاد عالميّة، وقد شرّع المقاومة بوجه إسرائيل ليس على مستوى البيان الوزاريّ بل على مستوى الأمم المتحدة، أي على المستوى الدوليّ في خطاباته المعلنة وفي اتصالاته وتصاريحه. واستنادًا إلى ذلك يسوغ القول بأنّ من قتل رفيق الحريري قتل التماهي الواضح بينه وبين حزب الله في تمتين عمل المقاومة عينًا وتسويغه على كلّ المستويات السياسيّة الداخليّة منها والعربيّة والخارجيّة، ومن ثمّ تجذيره وتثميره وتسييله في مشروع سياسيّ داخليّ يحافظ على نوعية التوازن كسبيل لاستقرار لبنان. لقد دلّت المعطيات الواردة من المحكمة الدوليّة بأنّ معظم الاتهامات المساقة ضدّ سوريا ونظام بشار الأسد في الحقبة اللاحقة للاغتيال كانت بمعظمها مجرّد اتهامات سياسيّة وبامتياز، خال من القرائن والأدلّة الدامغة، ويبقى السؤال مطروحًا هل سوريا غبية لدرجة أنها شاءت لنفسها الانتحار في لبنان عن طريق اغتيال رفيق الحريري؟ وهي تدرك بحذق سياسيّ واستراتيجيّ كبيرين بأنّ القرار 1559 الصادر عن الأمم المتحدة لم يهدف حصريًّا إلى إخراجها من لبنان، ولم يوضع ليكون مفتاح الحلّ للبنان بقدر ما هو مفتاح الأزمة المفتوحة على عناوين خطيرة بدأت تترسب من العراق ومشت نحو لبنان وأولى علاماتها الزلزالية اغتيال رفيق الحريري، لتتفجر في نهاية المطاق في سوريا.
إنّ اغتيال رفيق الحريري، أبطل قوّة التوازن بخطوطه العريضة الواسعة بدءًا من لبنان واستطرادًا نحو المشرق، على الرغم من أنّه في الممارسة التفصيليّة ساهم بحدود واسعة بنأي مكوّن مسيحيّ تاريخيّ منذ تسعينيات القرن المنصرم، وجاء الناي بتلازم المصالح السورية-السعوديّة من خلال اتفاق الطائف. ومع اغتياله وتراكم الأحداث بتطوراتها الدراماتيكيّة في سياق تسلسليّ، استطاع الوحش التكفيريّ وضمن الخطة الإسرائيليّة بالقضاء على جوهر التوازن، التسلل وفرض واقع عبثيّ جديد، في العراق وسوريا ولبنان. في العراق هجر المسيحيون، وفتحت الأبواب أمام تشنج مذهبيّ تداخلت فيه السعودية وإيران بعد الانسحاب الأميركيّ، إلى أن حسم الوضع. وفي سوريا تسربل الربيع العربيّ بوشاح تكفيريّ يحارب النظام بتبنّ سعوديّ-تركيّ-إسرائيليّ بحدود واسعة، لتندرج المعارضة تحت وشاحه يصاحب ذلك من لبنان خطاب سياسيّ داعم ومتشنج هادف لإسقاط النظام، ولم يقف ذلك عند حدود الكلام بل توغّل باتجاه التجسيد بالدعم اللوجستيّ والعسكريّ. ودخل لبنان حقبة جديدة من تاريخه تمثلت بالتفجيرات والفراغ القاتل.
لكنّ دائرة المأزق العبثيّ بدأت تضيق مع تبدل الرؤى الاستراتيجيّة وانهيار مفهوم الفوضى الخلاّقة أو الهدامة بمكنونه المذهبيّ المتصادم، والذي أرساه الأميركيون مع اغتيال رفيق الحريري والحرب الإسرائيليّة على لبنان في تموز 2006، وخلق انماط تكفيريّة في المشرق العربيّ ومحاولة تهجير المسيحيين العرب، بدأ يتلاشى مع إرساء قاعدة التوازن في بداءة حسم الحرب في سوريا وعليها، تقوده روسيا مع الثنائيّ بوتين-لافروف، وبالتحالف الجذريّ والجذوري مع إيران والصين. وتستند روسيا في قيادتها إلى عاملين:
1-عامل الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ، وبمؤداه لم تعد إيران دولة إرهابيّة أو داعمة للإرهاب، بل قوّة إقليميّة لها حساباتها الواسعة في إطارها الإيجابيّ الحديث، يرافق ذلك انفعال سعوديّ خال من أوراق القوة، متآكل بالعمق الداخليّ، وإن بدا يتحرّك في بعض الاتجاهات إلاّ أنّه تحرك محدود بسبب ضيق الآفاق أمامه، ومعركة حلب ما هي سوى ترجمة فصيحة لذلك.
2-عامل التسليم الأميركيّ بهذا الدور بعد مكابرة واضحة، والتسليم توضّح شيئًا فشيئًا بمراحل عديدة، ذلك أنّ الأميركيين ليسوا على استعداد لمعاندة روسيا والتحول إلى حرب فعلية معها ستكون تكلفتها باهظة على الأميركيين وهم ليسوا على استعداد لخوضها. وتستفيد روسيا بفهم واضح بأن ثمّة مصلحة مشتركة تجمعهم والأميركيين اليوم بمعاقبة رجب طيب أردوغان والسعودية بحدود معينة بسبب استمرارهم دعم الإرهاب التكفيريّ وترتيب الشرق الأوسط في اتجاه متوازن يقود إلى تسوية عربية-إسرائيليّة متوازنة. ويفهم الروس تاليًا بأن النمط الأميركيّ الجديد لا علاقة له فقط بالانتخابات الرئاسية المقبلة، بل بقراءة نقدية بنيويّة أجرتها الإدارة الأميركيّة لعهد الرئيس بوش الإبن بتداعياتها وثقلها أدخلت علاقتها مع الشعوب المشرقية بمأزق كبير نتيجة ترسيخ مفهوم الفوضى الخلاقة والهدامة بدعم إسرائيليّ واضح.
وفي الذكرى الحادية عشرة لاغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري، ومع اختلاط الأوراق السياسيّة في الداخل اللبنانيّ نتيجة التبدلات الجذريّة في الحرب السوريّة، يتساءل اللبنانيون ما سيكون موقف سعد الحريري؟
الإجابة لا تنتمي حتمًا إلى عالم التكهنات. ولكن يمكن فهم خطوطها على إيقاع المعارك في الشمال السوريّ، وفي الوقت عينه على الإيقاع العبثيّ لاستمرار الفراغ واستفحال الخلل في التركيبة اللبنانية بل في الرابط الميثاقيّ الداخليّ. وتشير بعض المعطيات بأن كلمته ربما تستند على:
1-عدم تسميته لسليمان فرنجيّة كمرشّح لرئاسة الجمهوريّة، وقد تم إبلاغ العماد ميشال عون بذلك بواسطة الوزير نهاد المشنوق، كما تمّ إبلاغ الوزير جبران باسيل عن طريق نادر الحريري.
2-ترك الاتصالات تأخذ مجراها في سبيل تامين الأرضيّة المناسبة للترشيح، وتقول بعض المعطيات بأن سعدًا بات شبه مقتنع بأنّ الاتفاق الرضائيّ ضمن سلّة متكاملة تأتي به رئيسًا للحكومة مقابل القبول بترشيح العماد ميشال عون أفضل من المكابرة، لكي لا يبقى بعيدًا بالمطلق عن رئاسة الحكومة. ذلك أنّ اختلاط الأوراق بمعناها الجذريّ ليس لصالحه، وقد أفقد فريق الرابع عشر من آذار توازنه وبريقه، مع عدم الجديّة بتينيّ ترشيح رئيس القوات اللبنانيّة الدكتور سمير جعجع لرئاسة الجمهورية، واستهلاكه كمجرد ورقة، وفي الوقت عينه ليس تبني جعجع لترشيح عون صدى شخصيّ بل قراءة عميقة لمسار الأمور تماهت بحدود معينة مع قراءة حزب الله، وهي تعني الحريري وتعني معظم المكونات الأخرى لفريق 14 آذار. وهذا سبب آخر لكي يقتنع الحريري بعد حين بتبني ترشيبح العماد ميشال عون
3-استمرار التواصل والحوار مع حزب الله على الرغم من البون العقيديّ والاستراتيجيّ في الخيارات. فالحوار هو المظلّة الحقيقيّة الحامية للتوازن الداخليّ، وسيرى الحريري بأن تاريخ والده بني على مفهوم اللقاء مع أمين عام حسن نصرالله، فهو وحده الكفيل بتامين التوازن بعمقه الكبير.
عسى تخرجنا الذكرى الحادية عشرة لاستشهاد الرفيق ومع كلّ التبدلات الجذرية من لحظة الاعتيال إلى الآن من هذا المأزق العبثيّ إلى إجماع على انتخاب رئيس قويّ وكامل الأوصاف للجمهورية اللبنانيّة يعيد لبنان إلى دوره الميثاقيّ-الأمميّ، في كبر نفس وصفاء عقل.