لينا فخر الدين -
هو نعيم عبّاس لا يتغيّر. بلا مبالاته المعتادة يدخل إلى قاعة المحكمة العسكريّة الدائمة، يرمي السّلام على الجميع ويبدأ باعترافاته. وهو المدرك أنّه ذاهب حتماً إلى الإعدام.
مشاهد كوميديّة يقدّمها الرّجل. يقرّب له رئيس «العسكريّة» العميد الرّكن الطيّار خليل ابراهيم صورةً لشاب، ويسأله إن كان يعرفه. ينظر عن كثب قبل أن يرجع الصورة: «لا أعرفه»، فيردّ عليه ابراهيم إنّه محمّد عز الدين من مجموعة سليم أبو غوش، ليجيب عباس: «هيدا عز الدين. إيه بعرفو. بس مغيّر، كان أصغر!».
وبرغم إنكاره، إلّا أنّ الصورة المأخوذة تعود لسنة الـ2007 أي عندما كان الشخصان على تواصل دائم.
أمس، كان نعيم عباس غير ذلك الرجّل اللا مبالي. احمرت وجنتاه، ناقض نفسه مرات عدّة عندما حشره ابراهيم في الأسئلة، إذ بدا أن الأخير حفظ تفاصيل ملف «أبو اسماعيل» عن ظهر قلب.
فجأة تتحوّل لا مبالاته إلى جديّة، محاولاً قول ما يصدم الجالسين أمامه. ينكر تهمة محاولة اغتيال وليد جنبلاط ووئام وهاب، بل يرمي التّهمة في أحضان السوريين. إذ يكشف أنّ أمير «كتائب عبد الله عزام» توفيق طه أخبره بأنّ صديقاً له مقرباً من المخابرات السوريّة جاءه خلال العام 2010، ناقلاً له رسالة من سوريا مفادها: «نريد منكم قتل وليد جنبلاط مقابل أن تأخذوا من لبنان ما تريدونه».
يكشف عباس أمام من التقوه في مقرّ توقيفه في الريحانية أنّ المخابرات السوريّة عرضت عليه إبّان التفجيرات التي حصلت وكان هو مسؤولاً عنها أن يقوم بسلسلة تفجيرات في أماكن مسيحية بهدف زرع الفتنة الطائفية، ليردّ عباس: «أنا لا أريد استهداف النصارى. أنا حربي ضدّ حزب الله!».
يؤكّد الموقوف علاقته ببشير البيطار والعنصر في قوى الأمن الداخلي مطرة أ. م. (الذي كان في مجموعة «القاعدة» التي أطلقت عدداً من الصواريخ على الأراضي الفلسطينيّة)، إلا أنّه ينفي أن تكون اعترافات البيطار صحيحة.
يسمع «أبو اسماعيل» ما قيل عن مجموعته التي استفادت من تقرّب مطرة بغية معرفة عناوين سكن الضباط، بالإضافة إلى تحريّات مكثفة عن تحرّكات اللواء أشرف ريفي. اقترح الليبي محمّد البشتي أن يكون هدف «القاعدة» مساكن الضباط في رأس النبع لسهولة استهدافها، بالإضافة إلى استهداف موقع عسكريّ في الرملة البيضاء (ثكنة فخر الدين)، بالإضافة إلى خطف ضباط بغية مبادلتهم بالسعودي فهد المغامس وبعض موقوفي «فتح الإسلام».
ينفي عباس أي علاقة له بهذه الأمور. بالنسبة اليه، فإن العداوة ليست مع الجيش بل مع «حزب الله» وحده.
جديّة الوكيل المعتمد للسيارات المفخّخة سرعان ما تضمحلّ. يقف على مدى أكثر من ساعة، ليسرد قصّة حياته، من انتمائه إلى «فتح» ثمّ «حركة الجهاد». لا يخفي الرجّل أنّه تدرّب على يد «حزب الله» بل وشارك معه في بعض أعمال المقاومة. كلّ هذا الودّ لم ينقلب إلى حقد عندما انتمى إلى «القاعدة» سراً في العام 2002 ثم بايع التنظيم علناً في العام 2005.
إذاً، متى بدأ الحقد على «حزب الله»؟ يجيب «أبو اسماعيل»: «عندما رأيتهم يوزّعون الحلويات في الضاحية الجنوبيّة احتفاءً بسقوط مدينة القصير. حينها قرّرت استهداف الضاحية بالصواريخ أوّلاً ثم بالسيارات المفخّخة».
يقول نعيم عباس ما له وما عليه. يسأله رئيس المحكمة سؤالاً ويتحدّث بكلّ أريحيّة. لم يكن خليل ابراهيم يريد أن يعرف عن حياة الرّجل حينما طلب منه الحديث عن نشأته بل يريد إيصاله إلى نقطة واحدة وهي التي عرفها نعيم عباس، ليقول ضاحكاً: «إنت عم تلفّ وتدور حول موضوع واحد هو: فرانسوا الحاج. لا علاقة لي بالأمر».
حينها استغرب ابراهيم الردّ ليسأله: «إن كنت غير مسؤول فكيف تعلم؟». الإجابة كانت مستغربة، إذ أشار الموقوف إلى أنّه سُئل عن الموضوع في «فرع المعلومات» وأكّد له الضابط المحقّق في «الفرع» أنّه غير مسؤول «فنحن نعلم من قتله».
ينفي الرّجل امتلاكه معلومات إضافيّة عن استشهاد اللواء الحاج، وإن كان يقول: «إن كنتم تريدون معرفة من قتله. إسألوا السوريين»، ويضيف: «كان الحاج قد خرج منتصراً من حربه على فتح الإسلام. وهو من الذين طالبوا بإقفال الحدود مع سوريا، فيما كان السوريون معارضين لهذا الأمر وغالبيّة الذين دخلوا من عناصر فتح الإسلام إلى نهر البارد، دخلوا عبر هذه الطريق»!
وبرغم نفيه علاقته باغتيال اللواء الحاج، تدور أصابع الاتهام حوله خصوصاً بعدما تمّ توقيف سليم أبو غوش (اختفى بعد خروجه من السجن ويعتقد أنّه من المتهمين الأساسيين باغتيال الحاج) ومحمّد عز الدين اللذين اعترفا أنّهما أمّنا لعباس المواد الأولية للمتفجرات (كالورتكس). كما أمّن له الأخير شريحة هاتف أصرّ عباس أن تكون من بيروت وليس من صيدا حتى لا تتمّ مراقبته.
ويروي الموقوفان أنّهما استقبلا عباس قبل أن يغيب ليومين ومن دون أن يجداه في عين الحلوة. اتصلا به فردّ توفيق طه على هاتفه، مشيراً إلى أنّه لا يعرف مكانه.
فيما المحققون يعتقدون أن اغتيال اللواء الحاج جاء بأمر من «القاعدة» رداً على توقيف القيادي في «القاعدة» السعودي فهد المغامس والمعارك مع «فتح الإسلام»، خصوصاً أن غياب عباس وشراءه المتفجرّات والشريحة جاء في المرحلة نفسها التي تمّ فيها اغتيال الحاج. في حين أنكر نعيم عباس كلّ هذه الأمور، مشيراً إلى أنّه لم يكن لـ «القاعدة» أي ارتباط مع «فتح الإسلام» ولم تقم بأي ردّة فعل تجاه توقيف المغامس.
وبشأن اعترافات عز الدين وأبو الغوش، تحدّث الموقوف عن أنّه من المستحيل أن يأخذ شريحة هاتف من أحد أو يطلب المتفجرات منهما «هما كانا يطلبان مني أما أنا فلا يمكن أن أطلب منهما سوى المسكن لأن معرفتي بهما لا تتعدّى الشهرين وأنا بطبيعتي حذر وإلا كنت قُتلت منذ زمن!».
ولكنّ هذا الجزم سرعان ما تحوّل إلى «ربّما»، لافتاً الانتباه إلى أنّه من الممكن أن يكون قد كلّف عز الدين أن يشتري شريحة. فيما بدا واضحاً أنّ الرّجل حاول أكثر من مرة التهرّب من السؤال عن مكان وجوده خلال الفترة التي اغتيل فيها الحاج، مبرراً الأمر بالنسيان.