محمد الطاهر
تبدو القصة الخرافية المعروفة بـ"جزاء سنمار" قريبة الشبه بالواقع المأساوي الذي تكابده عدة بلدان عربية تهاوت وتشرد أهلها وانهار بنيانها بعد أن انتزع منه حجر واحد.
تلك مفارقة غريبة بعض الشيء، إذ أن الأحجار تتشابه، لكن أحدها على الأقل تميز عن الآخرين ووُضع بكيفية ربطت مصير البنيان به، وما أن انتزع حتى اختل التوازن ووقعت الكارثة، ولكي نفهم المغزى من كل ذلك علينا أن نعود إلى سنمار فعنده الخبر اليقين.
يُحكى أن النعمان بن المنذر، الذي تقول الكتب أنه حكم الحيرة بالعراق بين عامي (582 – 609)، كلّف سنمار، وهو مهندس رومي، ببناء قصر مهيب، يتباهى به بين نظرائه، فكان له ما أراد، وظهر قصر الخورنق إلى الوجود.
صعد الملك النعمان بن المنذر مع سنمار إلى سطح القصر بعد اكتمال بنائه، وهناك جرى حديث بين الرجلين اكتمل من خلاله نسيج الأسطورة.
سأل النعمان: هل هناك قصر مثل الخورنق؟ وهل يوجد من يستطيع بناء مثيل له؟ وكانت الإجابة بالطبع لا. وحين استلم سنمار زمام الحديث باح لمليكه بسر، متفاخرا بأن القصر الفريد الذي شيده يرتكز على حجر إذا انتزع انهار البناء كله. ولما أقر سنمار بأنه الوحيد الذي يعلم موضع الحجر، دفع به النعمان من سطح القصر، فسقط صريعا وحمل السر معه.
أرادت الأسطورة هذه أن تعطي درسا في الفضيلة فخلدت سنمار وضربت به مثلا عمن يجازي الإحسان بالسيئة، ومضى التاريخ بها ينقلها من جيل لآخر، كما في كل الأساطير المشابهة.
وهكذا وصلت الأسطورة إلينا وقد تضخم عدد لا بأس به من دويلاتنا بأسطورة أخرى هي النفط الذي امتزج بوجودنا المنقطع عن العصر، ولم يختف النعمان من حياتنا، فقد توارثناه هو الآخر كما الأسطورة، أو ربما هو من توارثنا إذا نظرنا إلى المسألة من ناحية أخرى.
وفيما بقيت الأسطورة ثابتة على حالها، تغير الكثير في حياتنا المعاصرة بفضل "حتمية التطور" التي استثنتنا من حساباتها لأسباب كثيرة يمكن لكل منا أن يجد منها ما يناسبه، لكن هذه الأسطورة فيما يبدو تغلغلت في مساماتنا حتى صار في كل بنيان لنا حجر يحمل سر سنمار.
ويمكن القول إن لعنة سنمار ما فتئت تلاحقنا منذ عصور، وهي قد تجلت بوضوح في عصرنا الراهن وأصبح لكل دويلة لنا ملك أو زعيم أو قائد، وجميعهم بمثابة "حجر سنمار" إذا انتزع سقط البنيان وتهاوى مثل قطع الدومينو.
لا يخفى ذلك على ذي بصر أو بصيرة، إذ أنه حين انتُزع حجر العراق سقط البنيان وما عاد كما كان، وما أن انتزع حجر تونس حتى تصدعت الأركان، ولما انتزع حجر ليبيا انهارت وتفتت ولا تزال، وهكذا الحال في مصر وفي اليمن وفي سوريا التي لا يزال حجرها متماسكا عنيدا، بل وحدث ذلك في الصومال التي سبقت أخواتها في المصير.
وعلى الرغم من نسبية الانهيار بين التام والجزئي، بين المتواصل والمنقطع، إلا أنه من المؤكد أن الأمصار التي لم تنتزع أحجار ركائزها بعد قد تخلخلت، والمصير المأساوي يتربص بالبقية، ولا يوجد ما يشير من قريب أو بعيد إلى أنها ستنجو.