سعيد عقل عن "العيش لا حياة": الشهوة بنت العهر والحركة للحركة والفرح نتيجة النشاط المُبدع
مجمل معضلاتنا المجتمعية تتمحور حول كلمات ثلاث: "عيش لا حياة"
جميع ما يمكن أن يعدّ في متاعب مجتمعنا الحديث، تفرّع في الواقع من معضلة أساسية واحدة، نشأت في هذه الحقبة. وهي أن مفهوم الحياة عندنا كان يغرق في مفهوم العيش؛ عيش لا حياة. حول هذه الكلمات الثلاث تدور معضلاتنا الأساسية جميعاً.
ان المدنية الحديثة تفرُقُ عن المدنيات السابقة بأن بين منتجاتها ما قَويَ فيه طابع الإنتفاع اليومي العملي، وبالتالي طابع القابلية للتداول. على أن هذه المدنية، برغم من ذلك تبقى مدنية أي شيئاً يساهم فيه فقط، فمن استوردها ما جاء منها سوى المظاهر . المدنية لا تُقتنى، المدنية تُعمل.
. اقتناء السيارة والراديو والبراد شيء، والمساهمة في اكتشاف المبادئ التي من تطبيقها تكون وتترقى السيارة والراديو والبراد شيء آخر.
. اقتناء منتوجات المدنية الحديثة يوفّر لكلٍّ راحة الجسد. أمّا المساهمة في مبادئ العلم التي وراء منتجات المدنية الحديثة، فتوفّر لك سكرة العقل وغبطة الروح.
. الإقتناء يُمتعّك برفاه أوفر، والإكتشاف يمنحك غبطة الشعور بعنفوان الخَلْق. ذلك يضيف الى حوائجك حوائج، وهذا يجعل انسانك اكثف انساناً.
أجل في اقتنائك المدنية عيش وفي عملك اياها حياة. نحن نعيش لا نحيا، تلك معضلة معضلاتنا، منتقصة انساننا، ام جميع أزماننا.
1 – أولى عواقب هذه المعضلة: إننا نعرف الشهوة ونجهل الفرح.
. الشهوة بنت العهر والفرح ابن السعادة.
. الشهوة نتيجة الحركة للحركة، والفرح نتيجة النشاط المبدع من عدم.
. الشهوة في التجارة. يمتصّ بها الواحد عروق الآخرين، والفرح في التعامل يتفجّر خيراً على الطرفين.
. الشهوة في الحكم للوجاهة، والفرح في الحكم خدمة.
. الشهوة في الترنّم بالكأس، بالجسد، بالكميّةن بترف المقتنيات. والفرح في التمتّع بالكفاف، بالإتقان، بجمال البساطةن بدفء العائلة.
. الشهوة في صفاقة الوجه، في حب الظهور، في الصلف، في ارواء الطمع، في اراقة الدماء، والفرح في الدعة، في التعاون، في البذل والكياسة، في النبل، في نكران الذات.
2 – ثانية عواقب هذه المعضلة: العبودية
فمن يقتني ولا ينتج يشعر أبداً بانه سيظل الآخذ لا المعطي. يبقى ابداً تحت كابوس الخوف من فقدان ما أخذ. يبقى عبداً لما أخذ. وإن كانت الحرية أثمن شيء في الوجود لأنها شرط لمباشرة الإنسان عمله كإنسان. فيكون اننا اليوم وفي مجتمعنا بالذات، مُغَلْغَلو اليد. نعجز ان نطالَ واحداً من اغراض المجد.
3 – وهكذا يمكن إعطاء معضلاتنا الأساسية تعبيراً آخر: هو انها "أزمة طموح"
أزمة جيل أفقُهُ السراء يظنها العالم. لا قوى شعب نحته التاريخ نحتاً. فعله أن يقوده الى المساهمة بالمدنية. فيوسّع الكون ويضيف الى الوجود حداً آخر. ليصبح الكون اجمل والوجود أدلّ على طابع الإنسان.
إن أُعدَمُ الفرح وتعوزني الحرية! رب أي فراغ انا؟ أي ثغرة في الوجود؟ اي سرقة امتدت حتى الى الزمان والمكان؟ هذا الموضع الذي أشغله في الأرض، اما كان الأخلق ان يعطاه غيري؟ هذه الهنيهة من الدهر، اما كان الأجدر أن يسكنها سواي ؟ ان مصيبتي كابن هذه الأرض أكبر من مصيبة جميع من هم بجواري. لأنني بسبب وجود بؤر فكرية عليا بين ظهراني، أقدر أن اعرف أكثر من سواي اني حزين واني عبد.
شدّدت على هذه الأزمة الميتافيزيقية التي يواجهها انساننا اليوم، لأعطي فكرة عن عمق الجذور التي نبتت عنها جميع معضلاتنا.
--------------
سعيد عقل (آذار 1954 في الندوة اللبنانية)
نقلاَ عن نشرة الأصالة CMDR (المركز الماروني للتوثيق والأبحاث) العدد 1
ونشرة "الاصالة" هي اصدار شهري صادر عن "المركز الماروني للتوثيق ولأبحاث" وبالتعاون مع "المنتدى الحرّ التجددي" (F.A.R.) بقرار صادر عن البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ومجمع الأساقفة، وهدفه تكوين نظرة موحدة ونقدية في واقعنا الإجتماعي والوطني، وفي الإنحطاط الذي وصلنا اليه، وضرورة العمل خلق ذهنية جديدة اصلاحية تعيد الى مجتمعنا الأصالة الأخلاقية التي تميز بها اجدادنا، فيعود المسيحيون الى لعب دورهم الأصيل في بناء المجتمع اللبناني والمشرقي ويكونوا قدوة بأخلاقهم وسلوكهم.