محمد سيف الدين-
فاعيل كثيرة متوقعة لحدث إسقاط المقاتلة الروسية من طراز سوخوي 24، بعضها ما هو مرتبط بالعلاقات الروسية التركية، وبعضها الآخر مرتبط بأفق العمليات العسكرية الروسية ضد الجماعات الإرهابية في سوريا، فهل يقود الحدث روسيا إلى البر؟
لهجةُ حاسمة تلك التي وصف فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الارتدادات المقبلة لإسقاط الطائرة الروسية في سوريا، على العلاقات الروسية-التركية. بوتين علق على الحدث بالقول إن له "عواقب وخيمة" على علاقات الدولتين. ولم يقبل الذريعة التركية بأن الطائرة خرقت المجال الجوي التركي، بل أكد أنها لم تسقط بنيران أرضية إنما بطعنة في الظهر من طائرة "أف16".
العبارة الأخرى الملفتة للرئيس الروسي كانت وصفه الأتراك بـ"داعمي الإرهابيين"، وفي ذلك تسمية للأشياء بأسمائها، حسب ما وصل إليه الموقف الروسي مؤخراً. هذا الاتهام سيكون الثاني من نوعه لتركيا بدعم "داعش". سبقه اتهام غير مباشر من بوتين نفسه خلال قمة مجموعة العشرين قبل أيام عندما قال: "أربعون دولة تساهم في تمويل داعش، بينها دول في المجموعة". وهو يأتي بعد أن كان الروس يتجنبون الاتهامات المباشرة لتركيا بدعم الإرهاب.
فما هي خيارات الرد التي في جعبة الروس؟ وكيف يمكن أن تتأثر العلاقات الروسية-التركية؟
العلاقات الروسية-التركية إلى أين؟
يدرك العارف بتطور العلاقات بين البلدين في السنوات الأخيرة أن خسارة تركيا من حدث اليوم ستكون فعلاً كبيرة. فأنقرة تمكنت من الحصول على مكاسب جمّة من القوى المختلفة اللاعبة في أزمات المنطقة. كسبت من إيران، ومن الغرب، ومن روسيا نفسها أكثر من الآخرين.
قبل بداية الأحداث في العالم العربي في مطلع عام 2011، كانت تدور في خلفيات التطورات السياسية أحداث سباق محموم على إمدادات الطاقة، وبالأخص الغاز الطبيعي إلى أوروبا. الأحداث التالية اعتبرت من ناحية قوةً دافعة لتسخين ذلك السباق، ومن ناحية ثانية كانت هي نفسها نتيجة له.
في معطيات ما قبل الأزمة السورية، كانت الولايات المتحدة تخطط لتمديد خط الغاز الضخم "نابوكو" من آسيا إلى أوروبا عبر تركيا؛ وفي المقابل كانت روسيا قد خططت للعديد من خطوط الأنابيب التي ستجعلها ممسكةً بمصدر الطاقة الرئيسي خلال القرن الحالي. فمدّت "السيل الشمالي" من أراضيها إلى أوروبا عبر بحر الشمال، وأطلقت مشروع "السيل الجنوبي" منها إلى أوروبا الشرقية عبر البحر الأسود، وجنّبته المرور بالأراضي أو الموانئ التركية، تاركةً لتركيا إمداداً روسيا ضعيفاً عبر خط صغير سمي "السيل الأزرق" عبر البحر الأسود.
وبعد تحول الشرق الأوسط إلى جحيمٍ ملتهب، يغذيه صبّ الغاز على نار الخلافات السياسية والمذهبية والعرقية، بادرت روسيا (خلال زيارة أجراها بوتين إلى تركيا) إلى إلغاء "السيل الجنوبي"، واستبداله بخط "السيل التركي"، بعدها زار رئيس شركة "غازبروم" الروسية أليكسي ميلر أنقرة مستكملاً ما أعلنه بوتين وأردوغان. بهذا كسبت تركيا جائزةً كبرى لم ينلها غيرها خلال السنوات الأخيرة. لأن الخط المشار إليه حولها إلى لاعبٍ رئيسي في نقل الغاز والاستفادة منه. ولكن هل كانت تتوقعها جائزةً مجانية؟
استمرار أنقرة بلعب دور رأس الحربة في مواجهة المصالح الروسية قد يحول هذه النقطة تحديداً إلى عامل عقابٍ روسي لها. وإذا حصل ذلك، فإنها ستكون خسارةً استراتيجية كبرى لتركيا.
نقطة أخرى قد تستخدمها موسكو لمعاقبة أردوغان، وهي الاتفاقات التي وقعت بين البلدين لتعزيز التبادل التجاري بينهما. تحول قيمة هذا التبادل من حوالى 30 مليار دولار إلى ما يفوق 100 مليار بحلول السنوات الخمس القادمة، كان هدفاً طموحاً راهن الطرفان على عائداته، ولكن "طعنة" اليوم قد تصيبه مثلما أصابت الطائرة الروسية.
في الرد الروسي المباشر، أعلنت موسكو أنها قطعت علاقاتها العسكرية مع تركيا، وهي علاقات محدودة، أغلبها مرتبط بالتنسيق الأمني، نظراً لوجود تركيا كعضوٍ في حلف "الناتو". هذه العضوية كانت دائماً سبباً في جذب العلاقات المشتركة إلى الخلف. محطتها الملفتة في سنوات الأزمة السورية تمثلت بنصب بطاريات "باتريوت" قرب الحدود التركية-السورية. وقد جاء حل هذه المسألة مؤخراً ليريح الأجواء، قبل أن تتوتر مجدداً بعد الضربات الروسية للإرهابيين في سوريا.
حدث اليوم، مضافاً إلى أحداثٍ أخرى يعبر عن جنون غربي من فكرة أن تحسم روسيا إلى جانب سوريا وإيران الأزمة السورية. الرهان على تنافس المصالح الإيرانية والروسية أسقطه بوتين بزيارته طهران وتنسيقه مع قائدها بما يخص الأعمال العسكرية في سوريا، وخروج الطرفين بسلةٍ من التفاهمات حول المرحلة المقبلة. ولكن هل ستؤدي الضربات المتتالية للطائرات الروسية إلى حسم روسيا لقرارها في مسألة التدخل البرّي في سوريا؟
احتمالات معركة البر
بالرغم من استبعاد أن ترد روسيا عسكرياً بشكلٍ مباشر على تركيا، غير أنها ستتجه بالضرورة نحو تكثيف ضرباتها للتنظيمات الإرهابية على الأراضي السورية. ولكن حسابات موسكو دقيقة في هذه المرحلة. مصدر رفيع قال للميادين إن كميناً جوياً نصب للطائرة الروسية. فكرة وجود كمين أوسع لروسيا تبقى حاضرة، حيث يكون الهدف من حدث اليوم جر روسيا إلى مواجهة مع "الناتو" لتحرير التنظيمات المسلحة في سوريا من قبضة الطائرات والصواريخ الروسية.
الخطوة التركية الحامية يراد لها أن تنعكس برداً وسلاماً على المقاتلين المناوئين للرئيس السوري على مختلف مشاربهم. هذه قد تكون إحدى القراءات الروسية للحدث.
موسكو تفهم أيضاً أنه لا تركيا ولا الغرب من خلفها، كانوا ليسكتوا عن انهيار أحلام السنوات الأخيرة في سوريا. وفي أعين الروس، أن ضرب داعش والنصرة والتنظيمات الرديفة لهما يعتبر انهياراً لمشروعٍ كبير، كان يفترض أنه سيعوض تركيا عن انهيار مشروعٍ آخر. بعبارةٍ أخرى فإن أعلام تنظيماتٍ حليفة لأنقرة على تلال الشمال السوري، كان ليوازي علمها نفسه مرفوعاً في بروكسل. ولكن التدخل الروسي المكتمل الشروط بفعل لقاءات الأمس في طهران، بدا وكأنه سينهي كل شيء.
في التاريخ وصف الروس بأنهم "أسياد البر"، فهل يدفع الحدث بأسياد البر إلى البر؟
إن إسقاط طائرة روسية مقاتلة اليوم وإسقاط أخرى مدنية قبل حوالى الشهر يضعان روسيا أمام حتمية الرد، وبقسوة. ولكن الهدف الأكثر استحقاقاً قد يكون الجماعات الإرهابية في سوريا.
وعلى الطريقة السورية، فإن الرد يكون بضرب المشروع المعادي في النقطة الموجعة له، وليس من خلال ضرب اليد التي تطعن، بل المحرك لها. بكلام آخر، ردٌ يفيد في مسار المواجهة، لا رداً انتقامياً يشفي الصدور.
في السياق، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قواتها ستسقط أي طائرة ترى في تحليقها في الأجواء السورية تهديداً لها. وهي كلفت الطراد "ماسكفا" بحراسة أجواء محافظة اللاذقية بأنظمة (أس 300) بنسختها البحرية. ولكن احتمالات التدخل البري باتت مرتفعةً جداً، مع وجود معلومات لوجيستية تشير إلى ذلك.