كبريال مراد-
صديقان لي من أيام الدراسة في عداد المهاجرين. الأول جمع حقائبه منذ شهرين وتوجّه الى قطر، والثاني سبقه منذ ثماني سنوات باختيار دبي وجهة لعمله، ومكاناً لاستقراره . وبعدما جمعتنا مقاعد المدرسة واخبارها، وذكريات الطفولة واحلام الشباب، فرّقنا البحث عن مستقبل افضل. وباتت جمعتنا مقتصرة وجهاً لوجه على المناسبات، مرة في السنة، واحاديثنا تستبدل الصوت بالرسائل النصية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، واخبارنا نتناقلها عبر الواتساب، بدل ان نرويها في الجلسات.
يختصر مع حصل مع صديقي قصص آلاف اللبنانيين، ممن آمنوا بهذا الوطن ارضاً للحرية ومساحة يزرع فيها الانسان بتعبه طموحاته ليحصد بعد سنوات النجاح. فإذا به يلمس بيديه أن هذه الأرض تحوّلت الى بقعة تخنق فيها الاحلام بين الاشواك، وتداس الامنيات والخطط والطموحات بمنظومة المصالح.
لم يبق لي في لبنان من رفاق الدراسة الاّ من يعدّون على اصابع اليد الواحدة. والآخرون باتوا يتوزّعون في بلدان الانتشار، حالهم من حال كثيرين، وقصصهم من قصص كثيرين. فبالارقام، تتحدّث الإحصاءات الرسمية عن 50 الف مهاجر لبناني سنوياً. حتى بات لكل بيت مهاجر، ولكل عائلة مغترب او اكثر.
في الواقع، انتهت الحرب منذ 25 عاماً، لكن هذه الأرض لا تزال تجعل من اللبناني حقيبة سفر يفتّش فيها عما يؤّمن له العيش الكريم، ويتيح الفرصة امامه للتقدم وبناء عائلة وعدم الاتكال على أي كان في بداية حياته، فلا يركض ويعمل في اكثر من وظيفة، ليجد نفسه كمن يسير في مكانه، بلا تقدّم ولا افق ولا مستقبل. هذا من دون الحديث عن شيخوخته في غياب الضمانات والاستشفاء والقدرة على تأمين ثمن الدواء... بعدما "حط الفوقه والتحته" على أقساط المدرسة والجامعة وأضاع ثلاثين عاماً من حياته يسدد للاسكان شهرياً فاتورة شقته الصغيرة في حي تغيب عنه الشمس امام شجع الباطون.
انه القرف صحيح. إنه الغضب نعم. ولكن ما نعيشه يتطلب اكثر من مجرد فشّة خلق. ما نعاني منه يحتاج الى اكثر من تنفيسة. المسألة تنتظر مشروعاً اصلاحياً يضرب اساسات التركيبة المفياوية القائمة على ضرب مقومات الاقتصاد وركائز المؤسسات ورفض التغيير، حتى تحتفظ بوجودها ومكتسباتها ومحاصصاتها وعائداتها وثرواتها. نحتاج الى المثابرة حتى "ع كتر الدق يفك اللحام".
قد لا ننجح اليوم، ولكن الأكيد انه يجب ان نبدأ في مكان ما. فالأحلام لا تتحقق بكبسة زر، والتغيير لا يحصل برأس بندورة وبيضة وكرة قدم... وطالما أن هناك من يتصرف كأن شيئاً لم يكن، فهذا يعني ان الأسلوب خاطئ. لأن عروش الفاسدين الذين اتعبوا وسرقوا البلاد والعباد، لن تهتز بذلك، والجالسون عليها سينظرون الى ما يحدث كعرض مسرحي ينتهي اثره مع انتهاء المسرحية.
لذلك، فالمسألة بحاجة الى إعادة نظر...لان الغاية لن تتحقق بهذه الوسيلة.